أسدل الستار في سوريا على عهد من 6 عقود لحكم "حزب البعث العربي الاشتراكي"، استأثر فيه الأسدين الأب والابن بالسلطة خلالها لمدة تجاوزت نصف قرن، لتعود البلاد إلى "عهد جديد" وفق معارضي الأسد، مقابل مخاوف من انزلاق البلاد إلى الفوضى أو التطرّف. وفي ليلة وضحاها، وجد أغلب السوريين أنفسهم مشتتين بين فرحة التحرر من "ديكتاتورية الأسد" من جهة والخوف من "مستقبل غامض ومجهول" من جهة أخرى. وبينما كانت دوافع الفرح جامعة إلى حد كبير، فإن مبررات الخوف والقلق اختلفت من فئة لأخرى، بل وأحياناً من شخص لآخر ضمن الفئة الإثنية والدينية والطائفية والطبقية ذاتها.تقلّب سريع ومبرر في المواقف ترافقت سرعة تقدّم "هيئة تحرير الشام" على الأرض، مع سرعة استبدال معظم السوريين في الداخل لخطابهم السياسيّ، مصحوباً بتغيير صورهم وشعاراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، جهات حكومية وأفراد. وبالمثل، بات الحديث عن تجارب شخصية لجهة التعرّض للقمع والضغوط والتهديد سمة بارزة لدى أغلب المصنّفين "بالموالين" خلال حقبة الأسد، مقابل تفرّد نسبة من "المعارضين" بقرار الفرز بين "الوطنيين" و"الرماديين" و"الخونة". يقول ر.ي.، رب عائلة يبلغ من العمر 55 عاماً، في حديثه إلى منصّة "المشهد"، "ليس مستغرباً هذا التقلّب السريع في المواقف لدى الناس. سابقاً الخشية من تهم العمالة لـ"الإخوان" وإسرائيل، وحالياً العمالة للنظام والتورط بدم السوريين تدفع الكثير إلى المغالاة والتطرّف في إظهار حبّهم ودعمهم الظاهري للسلطة اليوم، وهذا مبرر". ويضيف المهندس المتدرّج في عدد من الوظائف الحكومية، من أبناء العاصمة السورية دمشق، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه "باعتقادي، عدا المنتفعين مادياً، وهي نسبة ضئيلة تكاد لا تذكر، فإن غالبية السوريين فرحين بانتهاء حقبة الأسد، لكن ذلك لا يبدد المخاوف من المصير المجهول". من جهته، يحذّر م.ع.، وهو رجل أعمال دمشقي، من أن تطال عملية المحاسبة فئات واسعة في المجتمع تحت عنوان "التورّط بالدم السوري" قائلاً إنّ "من يعرف الوضع السابق في سوريا يدرك جيداً استحالة ممارسة أيّ نشاط مهما كان نوعه من دون وجود علاقات مع أحد أركان النظام". ويشرح م. أنّ "معظم رجال الأعمال كانوا مجبرين على تقديم الدعم المادي والمعنوي للسلطة من خلال صناديق مالية تم إنشاؤها، والكثير من الدمشقيين أجبروا على مشاركة رجالات السلطة لضمان استمرارية عملهم، وهذا ينطبق أيضاً على الأطباء والمهندسين وأصحاب المطاعم والمهن، حتى الفكرية منها".الأقلّيات الأكثر خوفا المخاوف من المستقبل تتزايد بشكل كبير لدى الأقلّيات الإثنية والدينية والطائفية في المجتمع السوري المتنوّع بتركيبته الاجتماعية، ولكنها لا تنحصر بها، وسط ترقّب الجميع لما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيام. تقول، ولاء ج.، من سكّان مدينة حلب، والخرّيجة حديثاً من إحدى كلّياتها "بالتصنيف المقيت للطائفية، أنتمي إلى الغالبيّة، وأنا أشارك الكثيرين من صديقاتي القلق من طبيعة النظام الذي سيحكمنا في المستقبل. فرحتي ستكتمل عند إرساء نظام حكم لا يدخل في شكل وطبيعة الحياة الشخصية لكل منّا بدءًا من اللباس وصولاً إلى التوجّهات السياسية". وتضيف ولاء "حتى الآن الوضع في حلب مقبول، لكن البعض يحذّرنا من الهدوء ما قبل العاصفة، لذلك فإن كثيرين ممن تسمح لهم ظروفهم المادية يفكّرون في السفر والانتظار في الخارج إلى حين توضّح الأمور". من جهتها ترى ريم م.، العائدة إلى اللاذقية حديثاً، بعد إنهاء دراستها العليا في الخارج، أن "الأقليات، وخصوصاً في الساحل مرعوبة، وتخشى من تحميلها فاتورة ما حدث خلال عقود من حكم الأسد الأب والابن". وتشرح ريم أن "الشحن الطائفي في المجتمع السوري كبير جداً، والمقيم في الخارج ولو لفترة مؤقّتة الأقدر على ملاحظة ذلك، أعتقد بأننا بحاجة إلى سنوات للتخلّص من هذه الآفة". خلال عقود من حكمه، رسّخ الأسد معادلة قائمة على القمع والفساد مقابل السلم الأهلي وأمن الأقليات ونمط الحياة العلمانيّ في البلاد. لكن هروبه المفاجئ والسريّ ضامناً أمن أسرته فقط، بدّد هذا الوهم الذي استمر لعقود، وسط اتّهامات بتقصّده إغراق البلاد في الفوضى. يقول س.ب.، من أصحاب المهن في حلب من أبناء الأقلّية المسيحية "لم تشهد المدينة حتى الآن حوادث تبرر حالة الخوف التي ما زالت مستمرة رغم الضمانات المقدّمة من قبل الحكّام الجدد لرؤوساء الطوائف المسيحية، الذين نقلوها إلى رعيّتهم خلال الأيام الماضية". ويضيف س.، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه "أعتقد بأنه مع فتح الحدود، سنشهد هجرة واسعة للمسيحيين من حلب، الكل خائف والكل يبحث عن طرق للهجرة، التي أصبحت أصعب في ظل الحديث عن توقّف العديد من الدول الغربية عن استقبال اللاجئين". بالمقابل، يعتقد ب. ك.، وهو رب أسرة مؤلفة من 4 أفراد من مدينة حلب أن "ضمان الأقلّيات في حلب هو اجتماعي، وهو موجود أصلاً، لذلك الموضوع يحتاج إلى بعض الوقت والهدوء، كما أن المجاهرة بالخوف ستتسبب بالمزيد من الإرباك". دعونا ننتظر ونرى تجاوزت آثار إعصار "هيئة تحرير الشام" السيطرة الميدانية، للقبض بالسلطتين السياسية والحكومية. وبسرعة قياسية أعلنت عن رئيس وزراء مكلّف بتشكيل حكومته، وإجراءات وخطوات حوكمة تهدف إلى انتزاع الشرعية الدولية، وسط تكهّنات بقرب استبعادها من قوائم الإرهاب. خلال الأيام الماضية نقلت العديد من وسائل الإعلام الأميركية عن مسؤولين لم تسمّهم تصريحات تشيد ببرغماتية "هيئة تحرير الشام"، وسط تأكيدهم على وجود قنوات تواصل معها من خلال تركيا وقطر وغيرها من القوى الإقليمية الفاعلة. ترفض النخب السورية، خصوصًا تلك الموجودة في الداخل، الحديث عن مستقبل البلاد، "لأن الأولوية اليوم للسلم والأمن" مع إشارة خجولة إلى أن جذور الجهة المسيطرة على الأرض اليوم تعود إلى "جبهة النصرة" التابعة لـ"القاعدة". يقول أحد شخصيات المعارضة الداخلية، مع التأكيد على عدم الكشف عن اسمه لـ"المشهد": "الواضح أن هناك تسليما عربيّا ودوليّا بضرورة قبول الأمر الواقع، يقابل ذلك عمل حثيث على تلميع صورة الجولاني، الذي يبدو أنه سيكون زعيم سوريا في الفترة المقبلة". لكنه يستدرك بالقول: "الأهم هو ضمان عدم تغيّر خطابه بعد اكتسابه للشرعية وتمكين سلطته في الداخل، وهو ما رأيناه سابقاً في عهد حافظ وابنه بشار؛ لدرجة التناقض بين بداية عهدهما ونهايته. كما أننا يجب ألاّ ننسى بأن "هيئة تحرير الشام" اليوم تتحالف مع العديد من الفصائل المسلّحة، بعضها أكثر تطرفاً ومن جنسيات غير سورية، وذلك يزيد من مخاطر الانجرار إلى صراع مسلّح في المستقبل". وينهي حديثه بالقول: "دعونا ننتظر ونرى. لا أحد يمكنه تقديم قراءة واقعية للمشهد السوري المعقّد اليوم". (المشهد - دمشق)