في قرار يحدّ من تدخلات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ألغت المحكمة الدستورية العليا العديد من صلاحيات الرئيس، وسحبت منه سلطة إصدار المراسيم بقوانين تعد تدخلاً في استقلالية مؤسسات الدولة، وذلك بما يتوافق مع تعديلات الدستور الأخيرة عام 2017.تزامن ذلك مع الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا، حيث تم رفع قيمة الفائدة مرات عدة، وعلى إثر هذه الأزمات تمت إقالة محافظ البنك المركزي مرات عدة قبل نهاية فترة ولايته، التي تمتد لمدة 4 سنوات. ولهذا لم يتمكن أيّ من محافظي البنك المركزي من إكمال فترة ولايته الكاملة منذ عام 2016، لكن بموجب قرار المحكمة الدستورية، تم إلغاء استبدال رئيس البنك المركزي قبل انتهاء ولايته، وتعيين نوابه والتمديد لهم بمراسيم يصدرها الرئيس.ردا على ذلك، قالت وكالة الأناضول إن مركز تفنيد المعلومات المضللة التركي دحض مزاعم تناقلتها مواقع تواصل اجتماعي بأن "المحكمة الدستورية جردت الرئيس رجب طيب إردوغان من صلاحية تعيين محافظ البنك المركزي ورؤساء الجامعات".وأوضح المركز التابع لدائرة الاتصال برئاسة الجمهورية في بيان الأربعاء، أن المحكمة الدستورية بتّت بقرارها حول طلب إلغاء المرسوم رقم 703.وأشار المركز إلى أن المحكمة رفضت طلب إلغاء المرسوم المذكور برمته، وقررت إلغاء بعض الأحكام التي استصدرت من خلاله.قرارات المحكمة الدستورية في تركيا أعلنت المحكمة الدستورية، في قرار مؤلف من 482 صفحة نشر في الجريدة الرسمية في تركيا، الثلاثاء، بتعديل المرسوم بالقانون رقم 703 الذي يعطي الرئيس التركي صلاحيات واسعة. لعل أبرزها تكمن في استقلالية البنك المركزي، والحد من التدخل في التعيين والإقالة، إذ عيّن إردوغان المحافظ الحالي فاتح قره خان في فبراير الماضي خلفا لحفيظة غاية أركان، التي استقالت من منصبها في الشهر ذاته. وجاء في القرار: إلغاء اللائحة المتعلقة بتعيين الولاة ونوابهم، التي تنص على شرط أن يكون من يعين في منصب الوالي أمضى 6 سنوات في منصب قائم قام منها سنتان في شرق البلاد، وأن يحظى بتزكية وزير الداخلية وموافقة رئيس الجمهورية بسبب عدم الدستورية. إلغاء لائحة تتعلق بتحديد سن موظفي الخدمة العامة بـ65 عاماً حداً أقصى بموجب مرسوم يصدره الرئيس، ولا يجوز أن يراعى في التوظيف أي تمييز غير المؤهلات المطلوبة للوظيفة، مشددة على أنه لا يمكن تنظيم الالتحاق بالخدمة العامة بمرسوم. إلغاء تعديل على قانون التعليم العالي يمنح الرئيس سلطة تعيين رؤساء الجامعات الحكومية والوقفية وعدته غير دستوري، بحيث لا يمكن للتعيينات أن تتم بمراسيم رئاسية. إلغاء سلطة استبدال رئيس البنك المركزي قبل انتهاء ولايته، وتعيين نوابه والتمديد لهم بمراسيم يصدرها الرئيس.مواجهة بين إردوغان والمحكمة الدستورية كانت قضية إفراج المحكمة الدستورية العليا عن المحامي جان أتالاي (47 عامًا) والذي انتُخب نائبًا في البرلمان في مايو 2023، وحُكم عليه بالسجن 18 عامًا أحد أبرز القضايا التي اختلف عليها كلا من المحكمة وإردوغان. إلّا أن محكمة النقض التركية أبطلت هذا القرار وأعلنت تقديم شكوى جنائية ضد أعضاء المحكمة الدستورية الذين أمروا بالإفراج عن أتالاي. وفي أحد تصريحاته، قال إردوغان "للأسف في هذه المرحلة، اقترفت المحكمة الدستورية خطأ تلو الآخر". ويعدّ أتالاي واحدًا من 7 متهمين أُدينوا العام الماضي خلال محاكمة المعارض عثمان كافالا وهو كان محامي الدفاع عنه.في السياق، يقول المحلل السياسي المختص في الشأن التركي محمود علوش في حديث إلى منصة "المشهد" إن: القرار يعكس المواجهة الكبيرة التي يخوضها إردوغان مع المحكمة الدستورية العليا، التي ظلت قائمة منذ فترة طويلة. لكنها برزت في الآونة الأخيرة من خلال الصراع بين المحكمة الدستورية والمحكمة الإدارية في قضية أحد النواب المعارضين المسجونين ووقوف إردوغان إلى جانب المحكمة الإدارية.ويشرح علوش أنه "لا يمكن عزل توقيت قرار المحكمة عن الوضع السياسي الجديد الذي ظهر في البلاد بعد الانتخابات المحلية الأخيرة، وحاجة إردوغان إلى تخفيف حدة الاستقطاب السياسي الداخلي، وذلك للتفرغ إلى المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي تواجه تركيا، فضلا عن معالجة آثار الهزيمة التي لحقت بحزب العدالة والتنمية".بدوره، يقول المحلل السياسي فراس رضوان أوغلو إن "المحكمة الدستورية لها السلطة العليا في مسألة الخلافات القانونية والدستورية بين مؤسسات الدولة، وتحديد صلاحيات الرئيس في بعض القرارات فإنه يتم وفقا للقوانيين العامة".وهناك دلالات لقرار المحكمة وفقا لأوغلو أبرزها: المحكمة الدستورية لديها استقلالية في تركيا. التدخل في بعض القرارات والمراسيم وإن كان من قبل الرئيس يعيق العمل أحيانا، خصوصًا أن المراسيم هي مؤقتة واستثنائية. لكن عندما تصبح كثيرة تظهر وكأنها بديلا عن القانون، أي استبدال الثابت بالمؤقت الآني، ستدمر الدولة على المدى البعيد.هل سيخضع إردوغان لقرارات المحكمة؟ منذ وصوله للسلطة عام 2000، عُرف إردوغان بحنكته السياسية وقدرته على المناورة والتكيف مع الأوضاع المتغيرة، كما أن لديه تاريخ في استغلال الأزمات والفرص لتحقيق مكاسب سياسية، داخلياً أو خارجياً، مع حفاظه على المرونة في تغيير السياسات وتعديلها وفقاً للظروف السياسية والاقتصادية، بما يعزز قدرته على إحكام السيطرة على البلاد وجميع مؤسساتها. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فصل قرار المحكمة الدستورية العليا عن التحديات التي تواجه إردوغان الذي سيسعى للتغلب عليها إذا استطاع ذلك.في هذا السياق، يلفت علوش إلى أن "جرأة المحكمة جاءت من نتائج الانتخابات المحلية، والتي تعكس الواقع السياسي القائم في البلاد، حيث إن إردوغان لم يعد يحظى بقوة كبيرة، وبالتالي تكاليف مواجهته مع المحكمة الدستورية أصبحت مرتفعة جدا".ووفقا لعلوش فإن "طريقة تعاطي إردوغان مع قرار المحكمة الدستورية العليا، سواء بالاستجابة لها، أو تحدّيها، سيعكس مستقبل الصراع القائم بينهما، وفي حال رضخ إردوغان لقراراتها، سيكون ذلك حافز للمحكمة لاتخاذ قرارات مشابهة في المستقبل".الأكراد أحد المستفيدينمنذ وصول إردوغان إلى سدة الحكم، عانى حزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب" والذي كان يسمى سابقا "الشعوب الديمقراطي" من القيود التي فرضتها السلطة عليه، وتم اعتقال العديد من قاداته. ومن الأمثلة على ذلك، تم القبض على رئيس بلدية هكاري، المنتمي إلى الحزب المؤيد للأكراد، بتهمة الانضمام إلى منظمة إرهابية، وتم نقل صلاحياته إلى والي هكاري علي تشيلك بصفته وصياً على البلدية. كذلل تم سجن الزعيم السابق للحزب صلاح الدين دميرتاش على خلفية تظاهرات عنيفة اندلعت عام 2014 تنديدا بحصار تنظيم داعش لمدينة كوباني ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا، واليوم دميرتاش يقبع في السجن منذ عام 2016، ونصّ آخر حكم صدر بحقه بالسجن 42 عاما.ويرى رضوان أوغلو أن "الأمر إيجابي بالنسبة لحزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، ومن حقه الاستفادة من هذا القرار، لأنه هناك العديد من رؤساء البلديات تم فوزهم في الانتخابات المحلية، وبعد ذلك تم إلقاء القبض عليهم من قبل وزارة الداخلية لأسباب متعددة، الأمر الذي تسبب بمشاكل قانونية داخل البلاد". يؤيد ذلك علوش بقوله إن "أي مواجهة بين المحكمة الدستورية العليا وإردوغان تمنح الأمل لخصوم الأخير، ولا سيما حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، من أجل إضعاف قدرة إردوغان على إدارة البلاد بالطريقة التي فعلها بالسابق". لكن برأي علوش "الحالة السياسية الكردية لها خصوصية تختلف عن الجدل السياسي الحاصل اليوم بين المحكمة الدستورية وإردوغان، وبالتالي لا يمكن للمحكمة أن تؤثر على هذا الملف، وذلك بسبب ارتباط هذا الصراع بشكل أساسي بالحرب على الإرهاب كما تعلن الحكومة".(المشهد )