بعد 7 أعوام من فتور العلاقات بين باريس ولندن على خلفية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، اجتمع أخيرا زعماء البلدين في قمة هي الأولى منذ 5 أعوام، في خطوة يراها المراقبون قد تسهم في إذابة ما تبقى من جبل الجليد، في وقت يحتاج كل طرف إلى الآخر، بينما ينظر إليها آخرون باعتبارها محاولة قد لا تنجح في إنقاذ الشتات الأوروبي. ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من العام الماضي، تحسنت العلاقات الثنائية على استحياء، بسبب اتفاق البلدين على دعم كييف في مواجهة موسكو، إذ اعتبر رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في بيان له عشية زيارته إلى باريس، أنه من "الضروري" وجود "شراكة وثيقة" بين البلدين. وفي مؤتمر صحفي مساء الجمعة، رحّب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد القمة مع رئيس الوزراء البريطاني، بما وصفه "بداية جديدة" في العلاقات الثنائية بعد سنوات من الخلافات، قائلا "إنها لحظة لم شمل وإعادة تواصل وبداية جديدة". وانقسم الخبراء والمحللون الذين تحدثت إليهم منصة "المشهد" حول انعكاسات هذه الزيارة على العلاقات البريطانية الأوروبية، إذ يرى معسكر أن هذه الزيارة ستفتح صفحة جديدة من العلاقات، وستساعد بريطانيا على طوي صفحة الخلافات. في المقابل يُقلل المعسكر الآخر من نتائجها ويعتبرها محاولة قد تفشل بسبب التباينات في مواقف الدول الأوروبية حول الكثير من القضايا المشتركة. ووفق بيان لـ"داونينغ ستريت"، "ستركز النقاشات على تعزيز الشراكة لمواجهة التحديات المشتركة، وتعزيز حلف شمال الأطلسي لحماية مواطنينا وقدرة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها الآن وعلى المدى الطويل". تفاؤل بعودة العلاقات ويقود المعسكر المتفائل، الخبير في القانون الدستوري والمحامي في محكمة باريس إيلي حاتم، حيث يقول: "بريطانيا تريد استعمال فرنسا كنافذة لإعادة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي وهذا يعزز من موقف ماكرون داخل دول الاتحاد بعد كل الضغوطات والصراعات التي أقيمت عليه شخصيا وعلى حكومته". وأضاف حاتم: "حسب المعلومات، فإن سوناك يريد من خلال وساطة فرنسا الحصول على باب يفتح له لإقامة العلاقات التجارية بين بريطانيا ودول الاتحاد بشكل عام". ومنذ التصويت لصالح خروجها من الاتحاد الأوروبي تُكافح المملكة المتحدة من أجل التوصل إلى اتفاق تجاري نهائي مع الاتحاد الأوروبي، خصوصا ما يتعلق بتنظيم التجارة في إيرلندا الشمالية، حيث لم يتحقق ذلك إلا خلال الشهر الماضي، حين أعلن رئيس الوزراء البريطاني عن "فصل جديد" على صعيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد بريكست. ويرى أستاذ التواصل الاستراتيجي والعلاقات الحكومية في باريس نضال شقير، أن المشكلة الأساسية تكمن في العلاقات بين لندن وباريس، وأن التوصل لحلول يفتح البابا أمام مرحلة إيجابية جديدة من العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد الاتفاق الأخير بشأن تنظيم التجارة إلى أيرلندا الشمالية. وأوضح شقير إلى أن العلاقة الفرنسية البريطانية ستكون النقاش الأهم بين القادة خلال هذه الزيارة، "خصوصا بعد أزمة فشل صفقة بيع الغواصات الفرنسية الأسترالية". وخلال العام الماضي أعلنت أستراليا بشكل مفاجئ التخلي عن صفقة شراء غواصات حربية من باريس بقيمة 35 مليار يورو، واستبدلتها بصفقة غواصات تعمل بالطاقة النووية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، في خطوة أغضبت باريس، قبل أن تقرر سيدني دفع تسوية بقيمة 555 مليون يورو لصالح مجموعة نافال الفرنسية كتعويض على إنهاء العقد. بدوره يعتبر الصحفي الفرنسي علاء الدين بونجار أن هذه الزيارة تمثل محاولة لعقد شراكة جديدة وتجاوز أزمة البريكسيت، وقال: "في الواقع الرئيس الفرنسي يحاول عقد شراكة جديدة مع بريطانيا ويغتنم الديناميكية الجديدة التي جلبها سوناك وحاجة البريطانية لتطوير الاقتصاد". وتُعاني بريطانيا خلال الأشهر القليلة الماضية من أزمة اقتصادية خانقة وسط ارتفاع تكاليف المعيشة ونقص بعض السلع الأساسية في الأسواق وعلى رأسها الخضروات والفواكه الطازجة، ما دفع المعارضة إلى إلقاء اللوم على قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، بحسب ما قال خبير العلاقات الدولي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة أحمد سيد أحمد. وانتشرت موجة من إضرابات العمال في بريطانيا منذ مطلع العام الجاري بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، حيث تطالب بزيادة الأجور. وبحسب مكتب الإحصاءات الوطنية، واصل التضخم في المملكة تسجيل مستويات أعلى من 10% للشهر الخامس على التوالي خلال يناير الماضي عند 10.1%. ويضيف المحامي في محكمة باريس: "الدولتان تعانيان من مشاكل اقتصادية واجتماعية كبيرة مثل ما حدث في بريطانيا اضرابات وحركات شعبية هناك تظاهرات في فرنسا".وتابع: "باريس مهددة بالانهيار الاقتصادي والمالي لذلك تسعى لإقامة نوع من العلاقات التجارية والاقتصادية لإنعاش الأحوال داخلها لذلك ليس من المستبعد أن تكون هناك تقاربا في وجهات النظر، خصوصا أن ماكرون يعمل دائما بطريقة موضوعية ويتخطى بعض المسائل لأن الظروف معقدة جدا وهناك مشاكل الهجرة التي تعاني منها بريطانيا خصوصا من الأراضي الفرنسية". تعقيدات كبيرة ويرى المعسكر المتشائم بشأن الزيارة لن تنهي حالة الجفاء بين باريس ولندن بين ليلة وضحاها، إذ يشير المحلل السياسي جلال الورغي إلى أن رئيس الحكومة البريطاني يواجه تحديات كبرى في بداية عهدته في قيادة البلاد، "فحزب المحافظين يتخلّف عن غريمه حزب العمال في استطلاعات الرأي بحوالي 25 نقطة في نوايا التصويت خلال الانتخابات القادمة. وأضاف الورغي: "يسعى سوناك تحت ضغوط من حزبه لتحسين أداء حكومته من أجل استعادة ثقة الناخبين، حيث يراهن على هذه القمة لتحقيق تقدم في ملف يمثل إحد الأولويات لحكومة المحافظين وهو ملف الهجرة والمهاجرين المتدفقين على البلاد عبر بحر المانش الذي يفصل بريطانيا عن فرنسا".وتابع بالقول: "بيد إن رهان سوناك على التوصل لاتفاق مع فرنسا سيواجه تعقيدات كبيرة، فماكرون لن يسهل مهمة سوناك ولا هو حريص على ذلك، إذ إن الرئيس الفرنسي محمول على التعاطي مع ملف الهجرة في إطار أوروبي وضمن السياسات الأوروبية في هذا الملف".و"يعتبر الأوروبيون أن القوانين الأخيرة التي مررتها حكومة سوناك أمام البرلمان بشأن محاربة الهجرة مخالفة للمواثيق الدولية ويناقض حقوق الإنسان (..) إلى جانب ذلك سيبدي ماكرون تشددا واضحا في هذا الملف لدفع لندن لمراجعة المعاهدة المشتركة التي أنجزتها مع الولايات المتحدة وأستراليا بشأن الغواصات النووية، ورأت فيها باريس طعنة لها من قبل الدول الثلاث، بسبب تخلي أستراليا عن صفقة غواصات فرنسية"، بحسب الورغي.وكشفت لندن هذا الأسبوع عن قوانين جديدة تمنع المهاجرين القادمين على متن قوارب صغيرة من خلال القنال الإنجليزية من طلب اللجوء في المملكة المتحدة، على أن يتم إبعادهم إلى رواندا أو إلى بلد ثالث آمن، ويحظر عليهم العودة إلى الأبد، وسط انتقادات من جمعيات مساعدة اللاجئين في أوروبا. "وتبدي فرنسا ولا تزال موقفا سلبيا من قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتريد أن تبعث برسالة واضحة بأن من يخرج سيدفع الثمن باهظا وسيواجه تحديات لن يستطيع التعاطي معها منفردا خارج منظومة الاتحاد الأوروبي"، بحسب الورغي الذي ذكر أيضا أن "ماكرون يتقدم زعامة الاتحاد الأوربي، ويبدي نزعة خاصة مستدعيا شخصية الزعيم الفرنسي شارل ديغول أحد مهندسي الوحدة الأوروبية وأبرز زعمائها".فشل ماكرونويتفق خبير العلاقات الدولي في مركز الأهرام بالقاهرة مع الورغي، ليقول: "أعتقد أن ماكرون سيفشل كعادته في تحقيق الوساطة وحسم القضايا العالقة بين بريطانيا وأوروبا، لأن هناك تناقضا في مواقف كل دولة"، مشيرا إلى أن الرئيس الفرنسي لا يعبر عن موقف موحد للاتحاد الأوروبي وسط خلافات واضحة بشكل مباشر "حتى فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية". وأضاف أحمد: "ماكرون سيتجنب الحديث باسم أوروبا، سيكون حديثه باسم فرنسا (..) حتى في ظل الأزمة التي تواجهها بريطانيا قد لا يستطيع مساعدة سوناك، وبالتالي خيارات فرنسا محدودة لدعم سوناك والاقتصاد البريطاني في المرحلة المقبلة خاصة هناك أقل من عامين في الانتخابات البرلمانية البريطانية ويسعى سوناك لتحسين الوضع الاقتصادي على الأقل". ويرى أحمد أنه لن يكون هناك تفاهمات في قضية الهجرة، خصوصا بعد القانون البريطاني الجديد والذي سيسهم في تزايد الضغوط على باريس بشكل كبير مع استمرار الاضطرابات الداخلية "سوناك لم يقدم تنازلات كبيرة (..) مشكلة الهجرة وهي مشكلة مزمنة بين الجانبين، وأعتقد لم يتوصلا إلى أي حل". فيما يضيف الورغي: "قد تبقى الزيارة في العموم مقتصرة على تفاهمات عامة تتعلق بضرورة محاربة الهجرة، وسبل دعم أوكرانيا، ولن تذهب بعيدا في التفاهم في القضايا الحساسة بسبب تعقيداتها وأيضا في إطار رهان باريس والاتحاد الأوروبي على تعلم لندن الدرس جيدا من البريكسيت وما خلفه من خيبة أمل في بروكسيل". وتابع المحلل السياسي بالقول: "يدرك سوناك أن ماكرون لن يعطيه ما يريد، في ظل ارتباط باريس بالتزامات وموجهات أوروبية عامة، لكن سيحاول رئيس الحكومة البريطانية العودة بتفاهمات عامة، لعلها تظهره نجح في معالجة ملف المهاجرين المتدفقين على البلاد، وبالتالي تحسين وضع الحزب في استطلاعات الرأي، التي توحي إلى اليوم بأنها سيمنى بهزيمة قاسية، قد تكون الأكبر منذ عقدين".(المشهد)