يبدو أن التنافس الأميركي الصيني الذي انتقل إلى مرحلة أكثر حدة خلال السنوات الماضية، أخذ في التوسع لينتقل إلى أعماق البحار، حيث الكابلات البحرية التي تحمل حركة مرور الإنترنت وتربط العالم، لتجعلها عرضة للأضرار الناجمة عن الدوافع الجيوسياسية، حسبما جاء في تقرير لمجلة فورين بوليسي. المجلة الأميركية أكدت في تقريرها أن الكابلات البحرية لطالما كانت ضمن إطار هادئ، حيث لم يكن المشغلون مضطرون للقلق بشأن الجغرافيا السياسية، لكن الآن لم يعد من الآمن بناء كابلات جديدة تربط الولايات المتحدة والصين، ليدخلنا ذلك عصر الستار الحديدي تحت سطح البحر.الانعزال عن العالموفق التقرير فإن بحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط وبحر الشمال ومضيق هرمز وخليج عُمان وبحر الصين الجنوبي ومعظم المسطحات المائية الأخرى في العالم تحتوي على كابلات بحرية تربط الدول بالإنترنت والعالم ببعضه البعض، ومعنى عدم وجود كابلات بحرية في منطقة ما يعني ذلك انعزالها عن العالم، وهذا ما حدث حينما اكتشف سكان جزر ماتسو التايوانية وهي وجهة سياحية شهيرة عندما قطعت السفن الصينية كابلي الجزر في أوائل فبراير من هذا العام. وين لي أحد سكان جزيرة ماتسو وهو أيضا سياسي في الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايوان، يقول: "تلقت العديد من الشركات المحلية ضربة خطيرة. أعتقد أن الناس لم يدركوا مدى شدة اعتماد الاقتصاد الحديث واللوجستيات الأساسية على اتصالات الإنترنت. كل شيء مبني حول الإنترنت الآن". ويضيف: "على الرغم من توفر نظام الإنترنت اللاسلكي الاحتياطي إلا أنها كانت بطيئة للغاية، إذ استغرق إرسال رسالة نصية حوالي 20 دقيقة. وكان الوصول إلى معظم مواقع الويب غير ممكن، لذا لم يتمكن مالكو الفنادق من الوصول إلى سجلات الحجز، مما أثر بشكل خطير على صناعة السياحة". ودون الوصول إلى منصات التجارة الإلكترونية، تمت إعاقة الخدمات اللوجستية الأساسية للشركات الصغيرة مثل المطاعم ومحال بيع الهدايا، وتعطلت أيضا منصات بيع تذاكر الطائرات والسفن وأثر ذلك على حركة المرور المحلية، بحسب ما يقول وين لي. وقبل نهاية مارس الماضي، تمكنت السلطات التايوانية من الحصول على سفينة إصلاح لبدء إصلاح الكابلات، والتي عادة تكون هذه المهمة أطول بكثير لأن الطلب على سفن الكابلات البالغ عددها 60 فقط يفوق العرض بكثير، خصوصا وأن بعض السفن تقوم بمهام وضع كابلات. ويشير التقرير إلى أن الشركات المالكة للكابلات البحرية تأمل في زيادة أعداد السفن في الوقت الحالي بعدما اكتشفوا أن الكابلات معرضة لأعمال عدائية. وكابلات الإنترنت البحرية لم يتم تصميمها لمراقبتها وإصلاحها باستمرار، وفق التقرير الذي يؤكد أن هذه الكابلات يمثل مشروع سلام وخرج إلى العالم من الحرب الباردة، وأصبح مالكو الكابلات مزيجا من الشركات الدولية. ومع استمرار العالم في التحول الرقمي، ستكون هناك حاجة إلى المزيد من الكابلات على مدى السنوات القليلة المقبلة، إذ من المتوقع أن ينمو عددها بنحو 30% سنويا. مماطلة صينية على مدار العامين الماضيين، كانت السلطات الصينية تماطل من أجل الموافقة على كابلات بحرية تنتقل عبر بحر الصين الجنوبي، إلا أنه في غضون ذلك، ازداد قلق الحكومة الأميركية بشأن قدرة الصين على التجسس عبر هذه الكابلات لدرجة أنها رفضت الموافقة على تنفيذ 4 كابلات لصالح شركات "غوغل" وميتا وأمازون كان من المفترض أن تربط الولايات المتحدة وهونغ كونغ. نتيجة لذلك، قام مالكو 2 من الكابلات المخطط لها بتغيير نقاط ربط الكابلات لتمر بين تايوان والفلبين، حسبما يقول آلان مولدين، مدير الأبحاث في "TeleGeography" المتخصصة في الاستشارات والأبحاث، والذي يضيف: "لقد كانت صفقة كبيرة عندما تم إلغاء هذه الكابلات التي تم التخطيط لها وبناؤها ووضعها جزء منها من قبل الحكومة الأميركية(..) لقد كانت كارثة مالية للشركات المعنية". وتعتبر مماطلة الصين بشأن الموافقة على الكابلات الصينية، أو عدم وجودها بمثابة انتقام من تحركات الولايات المتحدة، ففي حالة واحدة على الأقل، بررت بكين تأخيرها بأن أحد أعضاء الشركات المالكة يمكنه إدخال معدات تجسس، لهذا أصبحت الكابلات المباشرة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين شيئا من الماضي. وقد لا تعرف الشركات التي تواجه تأخيرات في الموافقة من بكين السبب الحقيقي، ولكن أي تأخير يعني خسارة مالية، لذا ستفكر الشركات مليا في تركيب الكابلات في المياه التي يمكن أن تثير أي نوع من عدم اليقين الجيوسياسي، حيث جدت بكين "كائنات ضارة" في الأناناس التايواني وحظرت الأسماك النرويجية أثناء النزاعات مع البلدين.طرق ملتويةتثير المواجهة الأميركية الصينية على الكابلات أيضا احتمالية استخدام دول أخرى لموافقات الكابلات لتسجيل مكاسب أو مواقف جيوسياسية، فعلى سبيل المثال، تمتلك شركة "Global Cloud Xchange" الهندية كابل "FALCON" الضخم الذي تسعى من خلاله لربط الهند بعدد من البلدان الآسيوية، وقد يؤدي الخلاف بين أي من البلدان التي سيربطها إلى تأخير الحصول على الموافقات. كما أن الأمر ذاته ينطبق على منح الموافقات على كابلات جديدة والذي سيقتصر على ربط الدول الصديقة فقط.وبحسب "فورين بوليسي"، أصبحت الكابلات الجديدة التي عادة ما تمر عبر المياه الصينية أو المياه الجيوسياسية الأخرى محفوفة بالمخاطر بين نقاط التقائها، لذا قد يختار مالكو الكابلات طرقا ملتوية أكثر أو التخلي عن هذه الطرق تماما. ويستبعد التقرير احتمالية أن تطلق أي شركات خطط جديدة لربط روسيا وجيرانها في بحر البلطيق. وفي حين أن تغيير المسار إلى المياه التي لا تطالب بها الدول المعادية يقلل من المخاطر، إلا أن الكابلات التي ستكون في مياه الدول الإقليمية ومناطقها الاقتصادية الخالصة قد يدفعها للمطالبة بامتيازات. وأفادت تقارير آسيوية عدة بأن هناك عددا متزايدا من الكابلات التي يتم التخطيط لها الآن سيتم تحويل مسارها من بحر الصين الجنوبي لتنتقل عبر مياه دول مثل الفلبين. وتقوم شركتي "ميتا" و"غوغل" على سبيل المثال حاليا ببناء كابل يربط بين كاليفورنيا وسنغافورة عبر غوام وإندونيسيا، إذ يقول آلان مولدين: "إن وجود شركة أميركية تشارك في الكابلات الجديدة المستقبلية في بحر الصين الجنوبي أمر غير مرجح للغاية في الوقت الحالي". وبالتالي ستنتقل حركة المرور كابلات الإنترنت بشكل جيد عبر طرق ملتوية، وإن كانت ربما تكون أبطأ قليلا، وفق مدير الأبحاث في "TeleGeography"، والذي يضيف: "لدينا بالفعل كابلات مباشرة بين الصين والولايات المتحدة، لكن لن يكون هناك أي كابلات جديدة في أي وقت قريب".إعادة تشكيلستؤدي الجغرافيا السياسية إلى إعادة تشكيل مكلفة لأي مشروع تجاري يربط بين البلدية، وهو الحال نفسه فيما يتعلق بالكابلات المعاد توجيهها تحت سطح البحر.وبحسب "فورين بوليسي" من المتوقع أن تصبح الكابلات البحرية ستارة حديدية جديدة، إذ سيتم ربط الدول بشكل مباشر مع الدول الصديقة عن طريق الكابلات التي تنتقل عبر مياه الحلفاء، وهذا يعني أن البلدان الموجودة في الأجزاء الأكثر تحديا من العالم والتي يمكن الوصول إليها بشكل أفضل من خلال المياه أو المناطق الاقتصادية الحصرية لدولة غير صديقة قد لا تشهد الكثير من استثمارات الكابلات البحرية الجديدة. وعلى الرغم من تحرك هذه الاقتصادات نحو المزيد من الرقمنة، فإن تركها خارج خطوط الكابلات الجديدة سيكون أمرا مؤسفا للغاية خصوصا للبلدان التي تعاني من سوء حظ جيرانها المتحاربين. ولكن على الرغم من ذلك، فإن استراتيجية الكابلات الجديدة التي تتبناها حكومات الدول الغربية تقدم فرصة لدعم البلدان التي تريد أن تكون جزءا من النادي الغربي، إذ يمكن إدراج البلدان في تحالف للكابلات بين القطاعين العام والخاص بناء على المخاطر والمسؤولية المشتركة عن رفاهية هذه الكابلات.(ترجمات)