مع دخولها عامها الثالث، لا تزال الحرب الروسية الأوكرانية تملأ كواليس السياسة العالمية وتشغل ساسة العالم نظراً لخريطة التحالفات التي أفرزتها في صورة شبيهة للقطبية العالمية في عهد الحرب الباردة، وانعكاسات هذه الحرب الحالية على الاقتصادات العالمية، وتأثيرات نتائجها على شكل وطبيعة السياسة والاقتصاد الدوليين.ودشّنت موسكو السنوية الثالثة "لعمليّتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا" كما تسمّيها، بانتصار تكتيكي لا يخلو من الرمزية بالسيطرة على أفدييفكا، معلنة فشل مرحلة الهجوم الأوكراني المضاد، وبداية مرحلة من التقدّم البري الروسي ربّما.التقاعس الغربي وسقوط أفدييفكاونجحت الحملة الروسية التي تكثّفت منذ أكتوبر الماضي في السيطرة على أحد أهم المواقع الاستراتيجية في دونيتسك، إحدى المناطق الأوكرانية الأربع التي أعلنت موسكو ضمّها للجغرافية الروسية عام 2022.مع التقدّم الروسي الأول في أوكرانيا منذ ما يقرب العام، تكون موسكو قد حققت انتصاراً استراتيجياً له أهمّيته اللوجستية في الميدان والرمزية في الحالة المعنوية للمقاتلين الروس بعد عامين من الحرب، حيث تتيح السيطرة على أفدييفكا لروسيا دعم عمليّاتها البرية والجوية في العمق الأوكراني، وتبعد خط المواجهة عن مدينة دونيتسك، عاصمة الإقليم الإدارية، لنحو 25 كم.وألقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في هذه الخسارة الفادحة باللوم على حلفاء كييف الغربيين على طرفي الأطلسي وتحديداً على تأخر حزمة المساعدات العالقة في الكونجرس الأميركي نتيجة لحسابات سياسية شائكة بين الديمقراطيين والجمهوريين قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر 2024.ويرى الأكاديمي والمحلل السياسي الأوكراني فلوديمير شوماكوف في حديث إلى منصة "المشهد" أن "أوكرانيا منذ بداية الحرب تطلب المساعدات والأسلحة المتطوّرة من الغرب، لكنها حصلت من أميركا وحلفائها على الكثير من الخردة، أي معدّات عسكرية قديمة من الزمن السوفياتي، مقابل القليل من الدبّابات المتطورة من بريطانيا وألمانيا".ويضيف الدبلوماسي الأوكراني أن "أوكرانيا اليوم تواصل طلبها من الغرب تزوديها بالأسلحة لكن الرئيس جو بايدن متراخ وغير حاسم في هذا الأمر، حيث إن كييف لم تحصل على مقاتلات من طراز إف-16، ونشهد في كل مرة تأجيل تزويد أوكرانيا بالأسلحة، حتى القديمة منها".من جهته يشرح الخبير والمتخصص في الشأن الروسي د.فايز حوالة أن "روسيا خلال عامين حاولت استنزاف القدرات العسكرية لأوكرانيا، والقضاء على ترسانة الأسلحة السوفياتية السابقة التي تم تسليمها لكييف من قبل بعض الدول في شرق أوروبا أو شمال إفريقيا".ويشير حوالة إلى أن "الجيش الروسي نجح مثلاً في تدمير الدبابات السوفياتية التي تم إرسالها من قبل المغرب إلى بولندا لتحديثها، حيث تم منحها لاحقاً لأوكرانيا".لكن يعزي شوماكوف سقوط أفدييفكا إلى "قلة الدعم المقدّم لأوكرانيا، خصوصا أن أفدييفكا كانت مثل الحصن المنيع لأوكرانيا، وتتم مهاجمتها منذ عام 2014، لكن في العامين الماضيين تمت مهاجمتها بشدّة من قبل روسيا، وبايدن هو المسؤول في المقام الأول عن سقوط أفدييفكا".وفي هذا الإطار، قال البيت الأبيض في بيان عقب مكالمة هاتفية بين بايدن وزيلينسكي إن هزيمة أوكرانيا في أفدييفكا كانت "نتيجة تقاعس الكونغرس" في تمرير حزمة 60 مليار دولار من المساعدات لأوكرانيا، وقد استغلّ الرئيس الأميركي الحادثة لتوجيه نداء للكونغرس بضرورة تمرير مشروع القانون، مشيراً إلى أهمّية دعم أوكرانيا بالنسبة للأمن القومي الأميركي.ماذا بعد أفدييفكا؟في مطلع نوفمبر الماضي، نشرت مجلة "الإيكونيميست" مقابلة مع القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوزني، أقرّ فيها بوصول الوضع على الجبهة إلى "طريق مسدود" حيث لم ينجح الجيش الأوكراني في نهاية الهجوم المضاد الذي أعلن عن انطلاقه في يونيو 2023 إلا في التقدّم لمسافة 17 كيلومتراً فقط 5 أشهر من الهجوم الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى استعادة كل أو معظم المساحات التي سيطرت عليها موسكو منذ فبراير 2022، أو حتى ما قبلها.آراء زالوزني كانت متوافقة تماماً مع تقييمات المحللين الغربيين السلبية للهجوم المضاد، واعترافاً رسمياً من قبل كييف، التي أشارت إلى العديد من الأسباب التقنية واللوجستية لفشل هجومها، مع بقاء مسألة تأخر المساعدات وشحّها على رأس القائمة دائماً.ولا يتّفق المستشار السابق لمحافظ خيرسون، فلوديمير شوماكوف مع وصف الهجوم الأوكراني المضاد بالفاشل، معتبراً أنها وإن عجزت عن تحقيق أهدافها جغرافياً، إلا أنّها أدّت إلى "مقتل حوالي 400,000 جندي روسي وفقاً لتصريحات القيادة العامة الأوكرانية وتدمير أكثر من 6000 دبابة روسية و300 مقاتلة مختلفة تشمل الطائرات والمسيّرات والمروحيات"، بالإضافة إلى أهمّيتها في تثبيط الجيش الروسي.من جهته، يرفض حوالة تسمية "الحرب الروسية الأوكرانية" مؤكّداً على أن "روسيا تقوم بعملية عسكرية خاصة من أجل وقف الحرب التي بدأتها واشنطن بالانقلاب الدموي عام 2014 بأيد أوكرانية".فشل الهجوم الأوكراني المضاد في تحقيق أهدافه، فيما لم تنجح القوّات الروسية أيضاً في إحراز أي تقدّم ميداني كبير، إلى حين السيطرة على أفدييفكا التي تعتبر أول تقدّم روسي في ساحة المعركة، بعد "استاتيكو" شبّهه زالوزني بحرب الخنادق خلال الحرب العالمية الأولى.ويشرح حوالة أن "روسيا الاتحادية لا تريد حسم هذه الحرب، لذلك أكدّت على تسميتها بالعملية العسكرية الخاصة. موسكو لا تريد انتهاج مفهوم الحرب كما أميركا التي رأينا نتائجها في العراق وسوريا ويوغوسلافيا وأفغانستان وأماكن أخرى، لأن روسيا تحاول تفادي الضحايا بين المدنيين والبنى التحتية، وكأنها تجري عملية جراحية". في المقابل يعتقد شوماكوف أن "لدى أوروبا قدرة على مساعدة أوكرانيا لكن لا نرى موقفاً أوروبياً موحّداً لدعم كييف، في ظل مشاغل وجودية للاتحاد الأوروبي، وفي ظل تصريحات الرئيس الأميركي السابق حول انهيار وعدم تمويل الناتو. يدرك الاتحاد الأوروبي أن أوكرانيا تخوض حرباً اليوم، والموقف الأوروبي الموحد بدأ بالظهور متأخراً لكننا بتنا نشاهده اليوم، وتردد بايدن في دعم أوكرانيا شجّع بوتين على التخطيط لحرب طويلة الأمد".ويشير شوماكوف إلى "المساعدة السخية لموسكو من حلفائها حيث أرسلت كوريا الشمالية إلى روسيا مليون ذخيرة وتواصل إيران دعمها بالصواريخ الباليستية والمسيّرات في حين أن الاتحاد الأوروبي وعد كييف بمساعدة نحو مليون ذخيرة لكنه خلال عام زوّدها بـ 30% من هذه الكمّية فقط قبل أن يعلن استحالة إكمال هذه المساعدة".هل تجدي العقوبات الغربية بحق روسيا؟تباطأ الغرب في تقديم الدعم العسكري لكييف، إلا أنّه كثّف بالمقابل من العقوبات على روسيا، حيث من المنتظر أن تفرض واشنطن حزمة جديدة من العقوبات على خلفية مقتل أليكسي نافالني، المعارض السياسي الأبرز لبوتين، في سجنه في القطب الشمالي وذلك في أول أيام انعقاد مؤتمر ميونيخ للأمن في دورته الـ60 باستبعاد موسكو عن أعماله.لكن العديد من الأصوات الغربية بدأت تشكك في جدوى هذه العقوبات، بالنظر إلى مؤشّرات الاقتصاد الروسي، الذي حقق نمواً بنسبة 5.5% خلال الأعوام العشر الأخيرة، وهي من أعلى معدّلات النمو على مستوى العالم، مقابل تقديرات بنمو الاقتصاد الأوكراني بنسبة 2% في عام 2023 بعد انكماش بنسبة 3% خلال الأشهر العشرة التالية للحرب في عام 2022.وبرأي حوالة فإن "العقوبات الغربية انعكست عليها، لتغدو هذه الدول كما لو أنها أطلقت النار على قدميها. مقابل الانكماش في الاقتصادات العالمية والتضخم الذي تشهده العديد من الدول الأوروبية، نرى أن روسيا أصبحت الاقتصاد الخامس عالمياً والأول أوروبياً لناحية النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى تطوّر الصناعات العسكرية وارتفاع الرواتب داخل البلاد وتراجع التضخم".ويرى حوالة أن "أميركا تحاول جعل أوكرانيا ثقباً أسود، فكلّما طال أمد الأزمة في أوكرانيا نجحت أميركا في استنزاف القدرة العسكرية الروسية، لكن الأهم من ذلك استنزاف حلفائها الأطلسيين في القارة الأوربية، حيث إن هذه الدول ستعوّض خسائرها عبر الأسلحة والمعدّات الأميركية، وبالتالي فإن مجمّعات الصناعات العسكرية الأميركية ستجني أرباحاً وأموالاً طائلة من هذه العملية، لتكون واشنطن قد حققت أهدافاً اقتصادية أيضاً إلى جانب مكاسبها الجيوسياسية" من الحرب الأوكرانية.ويشير شوماكوف إلى أن "40% من حزمة المساعدات المالية الأميركية ستصب في النهاية في الاقتصاد الأميركي، حيث ستقوم كييف بشراء الأسلحة من المصانع الأميركية".وفي حين يعتقد حوالة بأنه "في نهاية المطاف سيتم الجلوس على طاولة الحوار والتفاوض من أجل انتهاء الحرب"، يحذّر شوماكوف من "ملامح تحوّل هذه الحرب المحلية إلى حرب عالمية، خصوصا مع الأخذ بعين الاعتبار التهديدات الروسية باستخدام السلاح النووي، ومع ترداد ميدفيديف (الرئيس الروسي السابق) 60 مرة لتصريحات متهورة لاستخدام السلاح النووي ضد أوكرانيا، في وقت تم إزالة الترسانة النووية الأوكرانية باتّفاقية بودابست التي تعهّدت فيه روسيا بعدم استخدام النووي ضد أوكرانيا".(المشهد)