بعد 8 أسابيع من الاقتتال وشهر تقريبا من المفاوضات التي أفضت إلى هُدن، سرعان ما تم اختراقها، تبخرت خلال الأيام القليلة الماضية أمال الوصول إلى حل في السودان مع تعثّر المحادثات بين طرفي النزاع التي كانت تستضيفها مدينة جدة السعودية. واحتدمت المعارك بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، مع انتهاء هدنة قصيرة مدتها 24 ساعة بوساطة سعودية-أميركية الأحد، حيث الأخبار والصورة التي تأتي من السودان تشير إلى وضع مأسوي يزداد يوما تلو الآخر في البلد الذي يعاني بالفعل سياسيا واقتصاديا منذ استقلاله في خمسينيات القرن الماضي.ثأر شخصيومنذ مطلع الشهر الماضي، كانت السعودية والولايات المتحدة ترعيان مفاوضات بين طرفي النزاع، لكنها انهارت قبل أيام مع استمرار المعارك، إذ قالتا في بيان مشترك إنهما على استعداد لاستئناف المباحثات بمجرد أن يُظهر طرفا الصراع تقيّدهما بما اتفقا عليه في إعلان جدة. ويعتبر المحلل السياسي السوداني عمسيب عوض خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ محاولة التقريب بين قيادتي طرفي النزاع أصبحت مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة في الوقت الراهن، إذ يقول: "المسافة الآن بين قائدي النزاع هي الأبعد في مسيرة الرجلين اللذين كانا مقربين من بعضهما". ويضيف عمسيب: "العلاقة بينهما بمثابة "أحذر عدوك مرة وأحذر صديقك ألف مرة" ما يصعّب من محاولات التقريب من دون قاعدة حل وضمانات متفق عليها". وتتفق مع هذا مستشارة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، والخبيرة في الشؤون الإفريقية أماني الطويل، إذ تؤكد خلال حديثها مع منصة "المشهد" على أنّ الصراع تحول إلى ثأر شخصي بين قائدي الجيش وقوات الدعم السريع، اللذين ينعتان بعضهما البعض في العلن "لينعكس هذا كله على طبيعة القرار المرتبط بوقف الحرب أو الجلوس على مائدة التفاوض".وقبل 4 أعوام تقريبا قاد قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان برفقة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي"، مجلس السيادة الانتقالي الذي شُكل عقب إطاحة القوات المسلحة السودانية بالرئيس عمر البشير، بعد احتجاجات شعبية واسعة استمرت لأشهر في كافة أنحاء البلاد.ويرفض قائد قوات الدعم السريع أن يكون قائد الجيش الحالي جزءا من أيّ سلطة مستقبلية في السودان، إذ نقلت وكالة "رويترز" عن مستشار قائد قوات الدعم السريع محمد المختار، قوله إنّ "البرهان لا يمكن أن يكون جزءا من أيّ سلطة مستقبلية وأنّ حميدتي، الذي ذُكر أنه مع قواته في ساحة المعركة، لن يكون له دور سياسي لكنه سيواصل قيادة قوات الدعم السريع".انتصارات ميدانية وعقب اندلاع الصراع منتصب أبريل الماضي، بين الجيش والدعم السريع، كانت هناك العديد من الوساطات الإقليمية والدولية، والتي أدت إلى هُدن عدة لوقف إطلاق النار بداعي إيصال المساعدات الإنسانية، لكنها من دون أيّ آلية واضحة لمراقبة ذلك، لكن برعاية سعودية- أميركية، قبل نحو شهر وقّع الطرفان على اتفاقية قصيرة الأجل لوقف إطلاق النار، وكانت الأولى منذ اندلاع الصراع التي تتم وفق اتفاق وآلية مراقبة محددة إلا أنّ ذلك لم يمنع استمرار الاقتتال وانهيار المحادثات في الأخير. لهذا تقول مستشارة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: "المشكلة الأساسية تكمن في أنّ طرفي الصراع يحاولان فقط الاستفادة من عامل الوقت في كل الهُدن والاتفاقات والمبادرات السابقة". وتضيف الطويل: "كلا الطرفين يرفض التوصل إلى حل ومفاوضات من دون تحقيق انتصارات أو مكاسب ميدانية تنعكس على موقفهما خلال جلوسهما إلى مائدة التفاوض(..) كل منها ينتظر أن يحقق نوعا من الحسم العسكري حتى يكون له وزن في أيّ مفاوضات، بما يعزز من مكاسبه السياسية على الطرف". وتابعت: "حتى الآن هناك توازن ضعف في موقف كلا الطرفين، وهذا لا يتيح لأي منهما تحقيق أهداف سياسية في مفاوضات". وعقب تعليق المحادثات في مدينة جدة، أدانت كل من السعودية والولايات المتحدة هذا الأسبوع بشدة، تلك الأعمال في السودان ودعتا إلى وقف فوري لإطلاق النار، وهو لم يحدث، حيث يتحدث سودانيون عن أوضاع مأسوية على منصات التواصل الاجتماعي، ومن بينهم الصحفية السودانية المقيمة في لندن داليا الطاهر، والتي كتبت على "تويتر" الأربعاء: " في مدينة الجنينة، من بقي على قيد الحياة حُرم من المغادرة أو مداواة الجروح، حيث يتم استهداف الأطباء وقتلهم، ولا توجد مستشفى تعمل كما لا يمكن دفن الجثث". وتابعت الطاهر: "نحتاج تحرك فوري لوقف القتل في الجنينة لإنقاذ مليون شخص هم من ظلوا على قيد الحياة حتى الآن". والجنينة هي مدينة سودانية تقع غرب الخرطوم، وتُعدّ من أكبر المدن وهي مركز ولاية غرب دارفور ودار السلام. وتعتبر الخبيرة في الشؤون الإفريقية أماني الطويل، أنّ طرفي النزاع "لا ينظرون إلى معاناة السكان وتهجير الآلاف وتدمير المنازل والبنى التحتية. هم يهتمون فقط بتحقيق أهدافهم العسكرية وتحقيق النصر". ويؤكد هذا المحلل السياسي السوداني والذي يقول: "كل طرف من الطرفين يسعى لحسم المعركة في أسرع وقت من دون النظر إلى التكلفة العالية". وأعلنت نقابة أطباء السودان في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، ارتفاع القتلى بين المدنيين من جرّاء الصراع، إلى أكثر من 800 شخص والمصابين إلى أكثر من 3600 شخص، فيما تتحدث تقارير عن عدد كبير من الضحايا والمصابين بما يزيد عن الأرقام المعلنة. من جانبها، أشارت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، إلى أنّ عدد النازحين داخل السودان بسبب القتال بلغ ما يزيد عن مليون شخص، فيما فر نحو 319 ألف شخص آخرين إلى الدول المجاورة. من يقوم بدور الوسيط؟ هذا الأسبوع حذر رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقيه، من أنّ الصراع في السودان يهدد باندلاع حرب أهلية في البلاد، حيث قال خلال كلمة ألقاها في الجلسة العادية الـ 14 للهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد"، إنّ الخطورة الشديدة للأزمة العنيفة التي تعصف بالسودان الشقيق والتهديدات الخطيرة التي تشكلها على وجود هذا البلد والمنطقة بأسرها، باتت واضحة، وإذا لم يتوقف هذا الصراع على الفور، فسوف تندلع حرب أهلية وسوف تنتشر الفوضى وتنهار الدولة السودانية بالكامل. وقال دبلوماسي مقيم في القاهرة لوكالة رويترز الأربعاء، إنّ هناك منتدى جديدا بقيادة الاتحاد الإفريقي يهدف إلى إشراك دول عربية وإفريقية في العملية، بما في ذلك مصر والإمارات، لكن ليس واضحا ما إذا كان أيّ من البلدين مستعدا لممارسة ضغوط حقيقية. ويتفق الخبراء والمحللون الذين تحدثوا مع منصة "المشهد"، على أنّ نجاح الوساطة في إنهاء المعارك ووقف إطلاق النار بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحتاج إلى تقديم ضمانات فاعلة لكلا الطرفين، حيث يرى المحلل السياسي السوداني عمسيب عوض، أنّ "الوساطة يجب أن تعتمد على مقدرة الوسيط على تقديم ضمانات لكلا الطرفين على حدة، فضلا عن القدرة على إقناع الطرفين أنه وسيط محايد". وتتفق مع هذا مستشارة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أماني الطويل، والتي تقول: " يجب أن تكون الوساطة من أطراف تملك كلًا منها علاقة جيدة بكل من طرفي الصراع، وهذا التنوع مهم ويمكن أن يكون فاعلا في المحادثات". وتضيف: "يجب أن يكون هناك مبادرة جماعية بها كل الأطراف الإقليمية والدولية، لكي تكون ناجزة، وهذا يحتاج إلى ضغط من الولايات المتحدة إلى جانب الدول العربية والإفريقية". ومع ذلك لا تتفق الطويل مع المحلل السياسي السوداني عمسيب عوض، والذي يعتبر أنّ الدور الإفريقي وحده هو الأنسب لحل الأزمة السودانية، قائلا: "أقصد بالدور الإفريقي هنا، الاتحاد الإفريقي وبعض الدول مثل إثيوبيا وجنوب السودان، وذلك لسابق معرفتهم بطرفي النزاع". وأضاف: "لكن أعتقد أنّ الصراع الدائر الآن تتم تغذيته بواسطة أطراف عمدت إلى تحجيم دور الوساطة، وعملت على تأجيج الصراع كلما أقترب السلام، وهذا الأطراف هي التي تمتلك مفاتيح الحل بصورة واضحة من جهتها تقول الطويل: "من المهم تجاوز فكرة التنافس الإقليمي التي تقودها إثيوبيا خلال الفترة الأخيرة، من أجل السيطرة على مخرجات إنهاء الحرب أو طبيعة العملية السياسية في السودان، لأنّ السودان بلد متعدد ويجب التعامل مع هويته المتعددة ومكوناته، بما لا يكون هناك أيّ إقصاء لأيّ طرف على حساب الآخر". وتضيف: "التحركات الإفريقية عبر الإيغاد، تستهدف استبعاد الأطراف العربية المتاخمة للسودان خاصة مصر. من هنا ستكون هذه المبادرة محدودة وسوف تواجه مشاكل. بالضبط كما كانت فاعلية الإيغاد محدودة في الحل السياسي، وأصبحت جزءا من مشكلة أكثر من أنها تسعى لحل". وأكدت مستشارة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، على أهمية الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف السياسية ودول الجوار في أيّ مبادرة لحل الأزمة بين طرفي الصراع في السودان، وهو ما لا يتفق معه عمسيب عوض والذي قال: "من ساهم في استمرار النزاع هو من عمل على إيقاف الدور الإفريقي". وأعلنت "إيغاد" في ختام قمة لها هذا الأسبوع، رفع عدد الدول المكلّفة بحلّ الأزمة في السودان، عبر انضمام إثيوبيا إلى لجنة ثلاثية كانت تضم كينيا والصومال وجنوب السودان، مع ترؤس كينيا اللجنة الجديدة عوضا عن جنوب السودان، حيث قال الرئيس الكيني الثلاثاء، إنّ مجموعة إفريقية أخرى داخل ذلك المنتدى، وهي الهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد"، تعتزم مقابلة حميدتي وقائد الجيش خلال الأيام العشرة المقبلة، في محاولة لوقف الحرب. لكنّ وكالة رويترز نقلت عن مسؤول سوداني لم تكشف عن هويته، قوله، إنّ قائد الجيش لن يلتقي قائد قوات الدعم السريع "في ظل الظروف الراهنة"، وذلك غداة إعلان كينيا سعيها لترتيب لقاء بينهما لمحاولة وضع حدّ للنزاع.(المشهد)