في خطوة تُعدّ محطةً فارقة في مستقبل سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، أصدرت الإدارة الجديدة الإعلان الدستوري، والذي سيُشكّل إطاراً قانونياً وسياسياً يُحدّد ملامح المرحلة المقبلة، في ظل تجميد العمل بالدستور السابق.ورغم التطلعات الكبيرة التي رافقت إصدار الإعلان الدستوري، فإن الانتقادات الواسعة التي طالت بنوده ومضامينه، وصولاً إلى حد الاتهامات بالإقصاء وعدم التمثيل العادل لمكونات المجتمع السوري المختلفة، أثارت شكوكاً حول قدرته على تحقيق الاستقرار المنشود وتثبيت الشرعية الدستورية للسلطة الانتقالية الحالية. إعلان دستوري للمرحلة الانتقالية في جو من التوترات الميدانية والسياسية، بالتزامن مع المجازر التي شهدتها القرى العلوية في الساحل السوري، والاتّفاق بين قسد ودمشق، ورفض السويداء الاعتراف بشرعية السلطة الانتقالية، وعلى وقع الغارات الإسرائيلية على العاصمة السورية ومدن أخرى، والتركية في منطقة سد تشرين، وقّع الشرع بالقلم الأخضر على مسودة الإعلان الدستوري. سبق هذا التوقيع خطوات عدة، أبرزها "مؤتمر النصر" الذي شهد مبايعة الفصائل المسلّحة للشرع كرئيس انتقالي لسوريا. بالإضافة إلى عقد مؤتمر الحوار الوطني في العاصمة دمشق، والذي تعرّض أيضاً لانتقادات قاسية بوصفه "مسرحية موجهة للخارج" لم يشمل مكونات المجتمع السوري من الأكراد والدروز والعلويين وغيرهم. وبعد أقل من أسبوعين عن تشكيل الشرع للجنة صياغة الدستور، تم الإعلان عن "مسودّة الإعلان الدستوري"، التي ترسم ملامح المرحلة الانتقالية في البلاد. ومن هذا المنطلق ينتقد العديد من السوريين الإعلان الدستوري كونه جاء بعد خطوات عدة اعتبروها إقصائية، تفتقد إلى الديمقراطية الحقيقة التي خرجوا من أجلها في 2011. وأحد أبرز نقاط الخلاف التي أثارت الجدل هي مسألة مصدر التشريع، حيث أشار الإعلان إلى الفقه الإسلامي كمصدر رئيسي، مما أثار مخاوف لدى بعض الأطراف من تأثير ذلك على الحقوق والحريات الفردية، خصوصا في ظل الخلفية الدينية والأيديولوجية المتشددة التي تنحدر منها السلطة الحالية.انتقادات حادةبالإضافة إلى ذلك، تعرضت بعض البنود الأخرى لانتقادات حادة، حيث رأى البعض أنها تُكرّس هيمنة تيّار محدد أو تُهمّش دور مكونات أساسية في العملية السياسية، خصوصا في ظل تحديد مدة الفترة الانتقالية لـ5 سنوات، من دون التطرق إلى عدم أحقية الشرع بعد ذلك إلى الترشح للانتخابات، ما اعتبرها البعض فرصة له لترسيخ سلطة طويلة الأمد. واعتبر الخبير القانوني والحقوقي المحامي غزوان قرنفل أن "الإعلان الدستوري تضمن العديد من البنود الإيجابية، كحظر إنشاء المحاكم الاستثنائية وإلغاء جميع القوانين الاستثنائية بحيث يصبح القضاء العادي سيد الموقف حتى أن القضاء العسكري أصبح تحت إشراف مجلس القضاء الأعلى ولم يعد تابعا لوزارة الدفاع، وحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، مما يعزز مبدأ سيادة القانون، وتجريم تمجيد نظام الأسد ورموزه وإنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها، واستثناء جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها النظام البائد من مبدأ عدم رجعية القوانين وهذا يعني أن القوانين التي ستصدر بهذا الباب ستطبق بأثر رجعي على مجرمي النظام البائد مهما كانت عقوباتها". وقال قرنفل في حديثه لمنصة "المشهد": "أما السلبيات في الإعلان أنّه يمركز السلطة كليا بيد رئيس الجمهورية ومن دون إمكانية لمساءلته، فهو رئيس السلطة التنفيذية وهو غير مسؤول عن أعمال هذه السلطة فمجلس الشعب لا يملك مساءلته أو مساءلة وزرائه عن أعمالهم تحت زعم أن النظام الرئاسي يفترض ذلك وهذا كلام مغاير للحقيقة، فكل الدول التي أخذت بشكل الحكم الرئاسي لديها آليات لمراقبة عمل السلطة التنفيذية من قبل برلماناتها، مثال الشروع بعزل الرئيس كلينتون بسبب يمين كاذبة في ملف المتدربة لوينسكي، والشروع بعزل نيكسون على خلفية فضيحة ووترغيت. كما أن الرئيس هو من يعين اعضاء المحكمة الدستورية وحتى من دون دور للبرلمان أو لمجلس القضاء الأعلى في ذلك فنحن لا نؤسس لنظام رئاسي بل نصنع فرعوناً" .واعتبر الرئيس المشترك السابق لمجلس سوريا الديمقراطية "مسد"، الشيخ رياض ضرار، أن "الإعلان الدستوري خلى من ضمان العمل السياسي الذي يعتبر من أساسيات الدستور". وقال ضرار في حديث مع "المشهد" أنه "لا آليات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية في الدستور المعلن، وبما أنه دستور انتقال ومرحلي يجب أن يعبر عن الحاجات الأساسية في الظروف الراهنة". مضيفاً "تحديد دين الرئيس بالإسلام يتعارض مع مبدأ المواطنة، وتسمية الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع بدلاً من اعتباره أحد مصادر التشريع، يقيّد نمط الدولة لناحية شكل الحكم وقوانينها". ورأى قرنفل أن "السوريين يحتاجون لسلطة تضمن المساواة في الحقوق بين الناس، وطالما نص دين رئيس الدولة يناقض مبدأ المواطنة المتساوية ويناقض مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين في تقلد الوظيفة العامة (والرئاسة وظيفة عامة)، وكذلك أن يكون الفقه الإسلامي مصدرا رئيسا للتشريع ليس منطقيا، لأن الفقه الذي مات أصحابه قبل ألف سنة يتضمن آراء فقهية وفتاوى وآراء مناقض بعضها من بعض وهي رأي بشري في قضايا دينية وليست ديناً فكان الأولى إن كان ثمة حاجة القول أن قيم الشريعة إحدى مصادر التشريع". مضيفاً "وأنا من جهتي أتبنى القول إن الإرادة الحرة للناس هي مصدر التشريع على أن لا يحل حراما ولا يحرّم حلالا".الأكراد يرفضون الإعلان الدستوري من جهتها، رفضت الإدارة الذاتية بقيادة الأكراد في شمال شرق سوريا الإعلان الدستوري، معتبرة أنه "يتنافى" مع تنوع سوريا ويضم بنودا تتشابه مع حقبة حكم حزب البعث. وجاء موقف الإدارة الذاتية وجناحها السياسي "مسد" (مجلس سوري الديمقراطية) بعد يومين من توقيع اتفاق بين جناحها العسكري "قسد"، وبين السلطات الجديدة في دمشق، حيث اعتبرت الإدارة الذاتية أن الإعلان الدستوري "يتنافى من جديد مع حقيقة سوريا وحالة التنوع الموجود فيها"، ويخلو من "مكوناتها المختلفة من كرد وحتى عرب". ورفضت الإدارة الذاتية الكردية للإعلان الدستوري الجديد في سوريا قد يُلقي بظلاله على الاتفاق الموقّع بينها وبين الحكومة السورية في دمشق، مما يهدد بتعقيد المسار السياسي وزيادة التوتر بين الأطراف. كما يشير هذا الرفض إلى وجود خلافات جوهرية حول رؤية مستقبل سوريا، خصوصا فيما يتعلق بالاعتراف بالهوية الكردية والحقوق الثقافية والسياسية للأكراد. وقد يؤدي هذا الرفض إلى تجميد الاتفاق الموقع بين قسد والشرع، ويدل على أن الطريق نحو تسوية سياسية شاملة في سوريا ما زال طويلًا ومليئًا بالتحديات، خصوصا في ظل الخلافات العميقة بين الأطراف الرئيسية. ورأى ضرار أن "أهمية الإعلان الدستوري الحالي تكمن في كونه المؤسس للدستور النهائي، لذلك يجب عدم تناوله من باب أنّه دستور مؤقت أو انتقالي فقط". وقال ضرار، أحد مؤسسي هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي المعارض للأسد عام 2011 "هذا الإعلان أعطى مهلة للسلطة الانتقالية لمدة 5 سنين إلى حين التمكّن، كما أنّه تضمّن العديد من البنود الإشكالية بدءا من السلطات اللا محدودة للرئيس الانتقالي، مروراً بالحكومة غير واضحة المعالم، ووصولاً إلى تجاهل المكوّنات المختلفة للشعب السوري ومشاكرتها في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ البلاد". واتّهم ضرار "اللجنة الدستورية باحتوائها على أعضاء لا يعرفون الفرق بين السلطات، والتصريحات التي خرجت عن بعضهم مضحكة، كما أن إصرارها على عدم إشراك قسد والساحل والجنوب تشير إلى كونها لجنة متحيّزة لا جامعة". مضيفاً "نقاتل وندافع عن فكرة اللامركزيات الديمقراطية التي تخلى الإعلان الدستوري منها بشكل كامل".المكوّنات الأخرى رافضة أيضاً تزامن الرفض الكردي مع الدرزي، حيث خرج شيخ العقل حكمت الهجري بتصريحات حادة جدا عبّر فيها عن رفضه الكامل عن ما تقوم به الحكومة بدمشق، واصفا إياها بالمتطرفة وشخيات من حكومتها مطلوية للعدالة الدولية. كما أصدر "المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر" بياناً اليوم قال فيه إن "الإعلان الدستوري يُكَرِّس الرؤية الشمولية للحكم السابق ويُعيد إنتاج ديكتاتورية إقصائية بصيغة جديدة، ولايضمن التمثيل العادل لقيام الدولة التي ينشدها كافة أطياف ومكونات الشعب السوري وهي الدولة المدنية التعددية الديمقراطية الوطنية الشاملة التي تحقق العدالة الاجتماعية ويضمن دستورها فصل السلطات وحق المواطنة وسيادة القانون والمساواة في الحقوق والفرص". بالإضافة إلى ذلك، أعلن حزب الاتحاد السرياني رفضه للإعلان الدستوري، مشيرا إلى أنه يكرس الإقصاء والتهميش بحق المكونات السورية. في ظل هذا الرفض والانتقادات التي توالت بعد ساعات قليلة من التوقيع على مسودة الإعلان الدستوري، يبقى التحدي الأكبر في تطبيقه على أرض الواقع. تحقيق الاستقرار والعدالة الاجتماعية وإعادة بناء الدولة يتطلب جهودًا كبيرة في المصالحة الوطنية وإصلاح المؤسسات وتوفير الخدمات الأساسية.(المشهد)