أحيا هروب بشار الأسد إلى موسكو نتيجة التقدّم السريع والمفاجئ "لهيئة تحرير الشام" وصولاً إلى السيطرة على العاصمة دمشق خلال 11 يوماً، الآمال في سوريا للإصلاح السياسيّ وإرساء الديمقراطية في البلاد المنهكة من الحرب الأهلية ونتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، تتصاعد المخاوف من استئثار الهيئة، التي لا تزال ضمن قوائم الإرهاب الدولية، بالحكم واستبعاد باقي الجهات والتنظيمات التي عارضت الرئيس الفار طوال السنوات الماضية، ما قد يفتح الباب أمام حقبة جديدة من الديكتاتورية بوجوه وتسميات مختلفة.مخاوف من استفراد الهيئة بالحكم مع إعلان زعيم "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، أحمد الشرع، عن تشكيلته الوزارية، بدأت الانتقادات والبيانات من جهات وأفراد تشير إلى ضرورة تشكيل حكومة شاملة تمثّل التنوع العرقي والديني في سوريا، كشرط لتحقيق الانتعاش الاقتصادي وعودة الملايين من اللاجئين. وأصدر "تيار المستقبل السوري"، الذي يدعو إلى إقرار وثيقة وفاق وطنيّ بمشاركةِ القوى السياسيّة الوطنية المتعددة، بياناً أدان فيه "رفع علم حزبي بموازاة علم سورية الوطني بمقر اجتماع الحكومة الانتقالية المؤقتة". وحذّر التيار، الذي يتزعّمه د. زاهر إحسان بعدراني، من "استيلاء جهة واحدة على القرار السيـادي الوطني، واستغلال النصر للهيمنة الفردية بدل تكريس الانتقال الكامل للشعب، ورئيس الوزراء المعيّن محمد البشير ووزرائه من أيّ تجاوز لصلاحياتهم أو المدة التي تم إقرارها"، داعياً إلى "حيادية الدولة عن أيّ صبغة حزبية أو إيدلوجية أو عرقية".من جهته قال رئيس الائتلاف السوري هادي البحرة في حديث لـ"المشهد" إنه "لن يتم السماح لأحد بالتفرد بالسلطة في سوريا"، مشيرًا إلى أنه يجب تطبيق القرارات الدولية التي تخص البلاد. وأضاف البحرة "لن نقبل إلا بتحقيق الفترة الانتقالية في سوريا والدخول في انتخابات نيابية حرّة نزيهة، يحق للجولاني مثل غيره من السوريين أن يطمح للرئاسة، فهذا حق طبيعيّ". وحول عدم وجود شخصيات من الائتلاف السوري والمعارضة السياسية في الخارج في الحكومة المؤقتة التي تشكلت، قال البحرة "نحن موجودون على الأرض وشاركنا في القتال والمعارك، لكن هذه الحكومة مؤقتة ومهامها حفظ الأمن والاستقرار وضبط الفوضى، لكن في الحكومة الأساسية التي سيتم تشكيلها بالتأكيد سنكون مشاركين".محاولات لإحياء الحياة السياسية داخلياً تشير الإطاحة بالأسد إلى تحول كبير في التاريخ السوري، لكنه لا يلغي المخاطر الكبيرة المرتبطة بالمرحلة الانتقالية بشكل خاص، وسط تحذيرات من أن يدفع سوء إدارة المرحلة بالبلاد نحو الفوضى والعنف، كما حدث في ليبيا بعد الحرب الأهلية، كما يعقّد وجود الفصائل المسلحة المختلفة مشهد الحكم، مما يثير مخاوف من احتمال حدوث تجزئة أو تصدّر الجماعات المتطرفة للحكم. وفي حين تعتبر الغالبية العظمى من السوريين الإطاحة بالأسد مبعثاً للسرور والاحتفال، يعبّر خبراء عن مخاوف جدّية بشأن مستقبل سوريا تحت قيادة الجماعات المعارضة المختلفة، مؤكّدين على ضرورة قيام الدول الإقليمية والقوى الدولية الفاعلة بلعب دور حيوي في تشكيل مستقبل سوريا، في ظل الحاجة إلى دبلوماسية نشطة بالتوازي مع مساعدات إنسانية سخيّة. يُنظر إلى فرار الأسد، بعد ربع قرن من استلامه الحكم من أبيه، على أنه فرصة لبداية جديدة بعد سنوات من القمع، لكن الطريق يبدو مليئاً بالتحدّيات، في ظل غياب شبه كامل للقوى السياسية الداخلية عن المشهد الحالي، مما يعزز من المخاوف على الوحدة الوطنية وخطر التفكك الداخلي في ظل إمكانية تنافس الجماعات المسلحة المختلفة على السيطرة. لا تخفي الشخصيات السياسية في الداخل السوري، والتي تواصلت معهم منصّة "المشهد" للوقوف على رأيهم في التطورات السريعة، حالة التخبّط والفوضى التي تشهدها جهات لطالما حاولت ممارسة دور المعارضة "ضمن الحدود الضيقة المتاحة في ظل النظام الأمني القمعي السابق" حسب وصفها. في المقابل، ظهرت أصوات عدّة من قبل نشطاء فاعلين ومؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى التكتّل والسعي لإنشاء تيّارات سياسية، محذّرة من ترك الساحة السياسية السورية لملئها من قبل شخص أو جهة تستأثر بالسلطة بشكل منفرد. يقول أحد المؤثّرين، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه، "كون الجهود في بدايتها ولم تتبلور بعد على شكل بيان تأسيسي"، في حديثه مع منصّة "المشهد" إن "الهدف من هذه الجهود ليس الانخراط في السياسة أو تحقيق مكاسب سياسية، بل محاولة ملء الفراغ الذي أحدثه النظام السابق، وتدارك الخلل في الحياة السياسية لأكثر من نصف قرن". مضيفاً "نرفض الأصوات الداعية لإقصاء كل من كان يعيش تحت حكم الأسد، على أرضية فرض المنتصر لشروطه، لأنّ ذلك يعني حرمان أكثر من نصف الشعب السوري من ممارسة حقوقه ومنها الحق الدستوري في ممارسة السياسة".مرحلة الحزب الواحد حكم الأسد الأب ومن ثم الابن البلاد بقبضة أمنية-عسكرية بعباءة "حزب البعث العربي الاشتراكي" السياسية، الذي لعب لعقود دور "الحزب القائد للدولة والمجتمع" بموجب المادة الثامنة من الدستور السوري، مع منح أدوار ثانوية لعدد من "أحزاب اللافتات" التي انضوت تحت مظلّة "الجبهة الوطنية التقدّمية" دون وجود أرضية جماهيرية لها. ورغم إلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري الذي تمت صياغته خلال السنة الأولى من الأزمة السورية، إلا أنّ "البعث" بقي متفرّداً بسلطته في الواقع العملي، محافظاً على فروعه داخل الجامعات السورية، والتعيينات في الاتّحادات والمنظّمات والنقابات في تداخل إلى حد التطابق بين الحزب والدولة. برز زعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، كأحد الشخصيات المحورية في النظام السياسي الجديد، وبدأ مؤخّراً باستخدام اسمه الحقيقي، أحمد الشرع، كإشارة إلى انتقاله لدور وطني أكثر شمولية، لكن هذا الدور يبقى منقوصاً دستورياً في ظل غياب الأرضية السياسية لسلطته والتي تعتمد على مبدأ التعددية الحزبية والمؤسساتية الدستورية في البلاد. يؤكد النشطاء السوريون على ضرورة الإسراع في تشكيل الأحزاب والتيارات السياسية الداخلية، كوسيلة لإيجاد نوع من التوازن بين الداخل المنعزل عن أيّ نشاط سياسي جدّي منذ عقود، مقابل الخارج الأكثر تنظيماً واستعداداً طوال السنوات الماضية. يقول سياسي سابق مشترطاً عدم الكشف عن اسمه "أمام سوريي الداخل طريق شاق ومليء بالمعوّقات؛ فالتيارات الداخلية تبقى ضعيفة في القدرة على التواصل مع الخارج وإسماع صوتها، مقابل سنوات من التواصل وبناء العلاقات من قبل الأحزاب السورية التي تشكّلت خارج البلاد". من جهته، يعترف القيادي في الحزب الديمقراطي التقدّمي الكردي في سوريا، أحمد سليمان، بغياب العديد من الأطراف المعارضة لنظام الأسد عن المشهد السوري المستجد. ويقول سليمان في حديثه إلى منصّة "المشهد" "هذا الغياب مردّه سرعة تطوّر الأحداث وضعف تأثير الأطراف المعارضة على الشارع السوري نتيجة التهميش المتعمّد لسنوات طويلة، بالإضافة إلى حالة استنزاف القوّة والتشرذم التي تعاني منها غالبية الأحزاب والتيارات والمنصّات". وحسب سليمان فإن "تكاتف المعارضات والتنسيق فيما بينها مهم من أجل إيصال صوتها للأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الملف السوري، وإلا فإنّ تهميشها قد يكون واقعاً غير مفاجئ". ويختم سليمان حديثه بالقول "الكل مطالب بإعادة هيكلة وترتيب شؤونه الداخلية، للانتقال بعده إلى مرحلة التنسيق وصولاً إلى الأهداف التي لا نزال متمسّكين بها من أجل سوريا حرة ديمقراطية متعددة". (المشهد )