لم تشن إسرائيل حربها على البشر والحجر في غزة فحسب، بل عبثت بمحتواها الديني والحضاري والثقافي، ودمرت الكنائس والمساجد والمتاحف والمواقع الأثرية الهامة والمقامات التي تعود لمئات السنين، وأضحت أثراً بعد عين.وتعتبر غزة من مدن العالم القديمة، حيث خضعت لحكم الفراعنة، والإغريق، والرومان، والبيزنطيين، ثم العهد الإسلامي، وهي تزخر بإرث عريق شاهد على الحضارات المتعاقبة فيها.ووفقاً لآخر إحصائية صدرت عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن إسرائيل دمرت 200 موقع أثري وتراثي، طالت على الأقل 10 مساجد، والعديد من الكنائس والأديرة، و9 مواقع أثرية، و12 متحفاً، ونحو 200 من المباني التاريخية العريقة، التي تتوزع بين القصور والقلاع والبيوت، فيما أتت نيران القصف الإسرائيلي على مبنى الأرشيف المركزي التابع لبلدية غزة، وأعدمت آلاف الوثائق التاريخية. بدورها أشارت وزارة الثقافة الفلسطينية، بأن إسرائيل دمرت ثالث أقدم كنيسة في العالم كنيسة القديس برفيريوس، والكنيسة البيزنطية والمقبرة الرومانية بجانب ميناء غزة القديم، ومقام الخضر، ومسجد السيد هاشم، والمسجد العمري الكبير، وحمام السمرة، وقصر الباشا، ودار السقا الأثرية، فيما تضررت العديد من المراكز الثقافية، والميادين العامة والنصب التذكارية. وعلى الرغم من أن المواقع التراثية محمية بقوة القانون الدولي، إلا أن إسرائيل ماضية في هذه السياسة الشوهاء، والأضرار المباشرة وغير المباشرة لحقت بأغلب المواقع ذات القيمة الدينية والثقافية في أرجاء غزة، على نحو غير مسبوق ينذر بكارثة حقيقية، وهذا ما أكدته منظمة تراث من أجل السلام، استهداف إسرائيل لمقبرة الإنجليز في مدينة غزة، ودير القديس هلاريون في النصيرات، ومتحف دير البلح، ومقام النبي يوسف في بني سهيلا، وكنيسة جباليا البيزنطية. إسرائيل تزيل الشواهد الحضارية من جانبه وصف وزير الثقافة الفلسطيني د. عاطف أبو سيف لمنصة "المشهد" بأن "ما تقوم به إسرائيل في غزة حرب الرواية والسردية على المخزون والهوية الحضارية، استكمالاً للنكبة وما تبعها من مجازر وتهجير ضد الشعب الفلسطيني، وهذا الاستهداف الممنهج تترجمه آلة الحرب الإسرائيلية منذ اليوم الأول للحرب".ولفت د. أبو سيف إلى أن "القوات الإسرائيلية قامت بسرقة المئات من القطع الأثرية من المتاحف والمواقع التاريخية، وهذا نهج لاستمرار الجرائم التي لم تتوقف، خلال الحرب فقدنا عشرات المؤسسات والمسارح والمكتبات ودور النشر والمتاحف والقطع الفنية والتراثية، وخسرنا العديد من الشخصيات الفاعلة في مجال التراث والثقافة، المشهد الثقافي تعرض لاعتداءات متعددة ومركبة النتائج".وختم تصريحه قائلا: "تدمير التراث الفلسطيني بهذا الكم الهائل من الخسائر، مساس متعمد بتراث البشرية، ناشدنا كل المؤسسات الأممية إلى تبني سياسات لردع إسرائيل وكف يدها عن التدمير المقصود في غزة".كنيسة القديس فيليب.. ملاذ جرحى الحربفي قلب البلدة القديمة بمدينة غزة، تضرب جذور كنيسة القديس فيليب في أعماق الأصالة والتاريخ، وتقدم نموذجاً حياً في الوحدة والتكاتف والعطاء الذي وجدت لأجله، رغم ضيق الحال بفعل الحرب الإسرائيلية التي ألقت بظلالها الكارثية الأليمة على الغزيين، إلا أن الكنيسة والقائمين عليها والمتطوعين فيها يقدمون الخدمات الطبية المتواضعة للجرحى، خصوصا أن المستشفيات في غزة القديمة ومحيطها خرجت عن الخدمة، وباتت كنيسة القديس فيليب هي عنوان الجرحى لتلقي العلاج. يعلق الأب عبد الله يوليو رئيس دير الروم الملكيين الكاثوليك في الأراضي المقدسة لمنصة "المشهد" قائلاً "الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لا تفرق بين المسيحيين والمسلمين، بل صوب كل فلسطيني، وشاهدنا استهداف الأماكن الدينية المسيحية والإسلامية وهي خسارة كبرى، وهذه الكنيسة ما هي إلا مثال صارخ، ونموذج مهم ليرى العالم ثقافة الشعب الفلسطيني المحب للعيش المشترك والسلام والعدل، صورة الإنسانية بأبهى تجلياتها تتحدى الحرب والخراب". من جانبه يقول الطبيب يوسف سلامة الموجود في الكنيسة بشكل دوري مع زملائه الأطباء والممرضين لمنصة "المشهد"، "رغم شح الأدوية والمواد الطبية الرئيسية التي نحتاجها كأطباء في عملنا، إلا أننا نتمكن بفعل استخدام بعض المسكنات والأدوية البسيطة وحتى الطب البديل مثل الخل، من علاج الجرحى الذين يأتون للكنيسة التي فتحت أبوابها لاستقبالهم في قاعتها والاعتناء بهم، وعملنا مستمر ورسالتنا باقية". فيما عبرت والدة أحد الجرحى لمنصة "المشهد" عن فظاظة الظروف التي واجهتنا بالحرب قائلة "بقي ابني لأيام وأيام بدون علاج، بفعل القصف العنيف، وعدم تمكن العيادات والمستشفيات على استقبال المزيد من الجرحى، إلى أن وصلت لكنيسة القديس فيليب، وعلى الرغم من تواضع الإمكانيات، فإنني بت أشعر أنني وابني ماجد في أمان". الحرب على الآثار.. شطب للهوية في السياق، اعترفت منظمة عمق الآثار الإسرائيلية المختصة بشؤون الآثار، أن الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، أدت إلى تدمير مئات المواقع التاريخية والأثرية، وأكدت أنه لا يُسمح لإسرائيل بالاستيلاء على قطعة واحدة من الآثار الموجودة فى غزة، والتى تعود ملكيتها لشعب غزة. بدوره أشار خبير التراث الثقافي د. حمدان طه لمنصة "المشهد"، أن "التراث الثقافي في قطاع غزة، يمتد إلى 5 آلاف عام، ويمثل نموذجاً مميزاً للتعددية الثقافية، وهو نتاج نشاط إنساني مهم على هذه البقعة، البوابة الجنوبية لساحل فلسطين، والقطاع الأثري الذي دمر في غزة بفعل الحرب الإسرائيلية، لا ينتمي للتراث الثقافي الفلسطيني فحسب، بل يعدّ جزءاً من الهوية الثقافية العالمية ومن ذاكرة البشرية جمعاء، وهو خسارة فادحة ستلقي بظلالها مستقبلاً".وأضاف د. طه: "أعمال التدمير شاملة لم تقتصر على الكنائس والمساجد بل طالت كل أشكال التراث الثقافي من مراكز المدن التاريخية والأثرية، والمباني العريقة والمتاحف، ودور العلم والجامعات والمدارس، فالحرب أتت على كل ما يخص رموز الذاكرة الجماعية التاريخية للشعب الفلسطيني، وهذا يندر في إطار التجهيل والقتل وطمس الحقائق". وختم المتحدث قوله: "الكنائس والمساجد كانت ضحية مباشرة للحرب، أعمال التدمير التي طالت التراث الثقافي سعت وتسعى إلى تدمير الهوية الثقافية الوطنية، وهي جزء من سياسة الاستهداف الإسرائيلية القديمة الحديثة، ولكن مهما بلغت تعلمنا بأنها سياسة خاسرة".(المشهد)