في وقت يصارع فيه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لكسب ثقة مواطنيه قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، تتمسك الدولة السورية بمفاوضات شديدة اللهجة أثارت التكهنات حول مدى إمكانية الوصول إلى تطبيع بين البلدين.وشدد الرئيس السوري بشار الأسد الجمعة الماضية على ضرورة "إنهاء الاحتلال ووقف دعم التنظيمات الإرهابية"، في إشارة منه إلى فصائل المعارضة في الشمال التي تتلقى دعما سياسيا وعسكريا من الجيش التركي.ووضعت دمشق مجموعة من الشروط القاسية على أنقرة للدخول في مفاوضات، إلا أن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو توقع أن يجتمع مع نظيره السوري فيصل المقداد فبراير المقبل.وكان المقداد قد أكد السبت الماضي أنه "سيتعين على تركيا إنهاء وجودها العسكري في بلاده لتحقيق تقارب كامل"، وذلك في لقاء جمعه مع نظيره الإيراني في دمشق.وتدعم روسيا، وهي حليف رئيسي للأسد، التقارب بين دمشق وأنقرة، واستضافت محادثات بين وزيري دفاع البلدين في ديسمبر الماضي وتهدف إلى عقد اجتماعات بين وزيري الخارجية، وفي نهاية المطاف، بين الرئيسين.شروط مقبولة وأمام هذه المستجدات، يعتقد الكاتب المتخصص في الشأن التركي إسماعيل كايل في تصريحات لمنصة "المشهد"، أن بلاده "لن تتردد في سحب قواتها من سوريا في حال انسحبت بالفعل القوات الأجنبية كافة من هناك وأزيل خطر إقامة كيان انفصالي للأكراد". وكذلك توافق الباحثة المتخصصة في الشأن التركي هدى رزق في حديث لمنصة "المشهد" على أن " تركيا تريد الانسحاب من الشمال السوري، بعدما أظهرت استطلاعات الرأي تأييد الناخبين للخروج التركي من الملف السوري". وهو الأمر الذي لا يرفضه كايل إذ قال: "لا يمكن فصل الموضوع عن سياق الانتخابات الهامة جدا التي تقبل عليها تركيا، لكن من غير المنطقي اعتبار أن المسار السياسي مع سوريا تحركه دوافع أو مصالح انتخابية". وأضاف كايل: "هناك أسباب مختلفة تدفع أنقرة نحو التطبيع مع سوريا وأبرزها تلك المتعلقة بالوحدات الكردية، ملف اللاجئين، والجانب الاقتصادي". من جهته، يؤكد المحلل السوري غسان يوسف في تصريحات لمنصة "المشهد" على أن الأسد يعوّل على نقاط عدة في رفع سقف المفاوضات، وأبرزها: حزب العدالة والتنمية ممثلا ليس أمامه إلا السير في طريق المصالحة باعتبار أن الشارع التركي وصل لمرحة من الانفجار بسبب اللاجئين السوريين. ثوابت سوريا تتمثل بالحق في انسحاب القوات التركية من البلاد ووقف دعم الجماعات الإرهابية. التعويل على المعارضة التركية التي قد تفوز على إردوغان، وهي لا تعارض مطالب دمشق لجهة الانسحاب. وشدد يوسف على أن "الأسد لا يطلب المستحيل، فكل ما يريده هو طرد جيش محتل، علما أن أنقرة هي من طلبت من الروس الوساطة لعودة العلاقات الدبلوماسية وفتح المعابر". ورأى أن "الدولة السورية لن تطلب الانسحاب إذا لم تكن عالمة من موافقة أنقرة على ذلك". وكذلك تؤكد رزق أن "الأسد في مطلبه يعول على الموقف التركي، لأن استطلاعات الرأي في الداخل التركي حول المفاوضات أعطت إردوغان 65% من أصوات الأتراك، وهذا يعني أن الجمهور التركي مستعد للتصويت له في حال إعادة العلاقة مع دمشق". وكان مسؤولون أتراك على رأسهم وزير الدفاع خلوصي آكار، قد أشاروا إلى أنه تم التوصل إلى جميع الاتفاقات اللازمة خلال "لقاء موسكو"، مشيرا إلى الاتفاق على إنشاء مركز مشترك وتطوير تسيير الدوريات المشتركة في الشمال السوري. معضلة الأكراد في المقابل وبينما أعربت إيران، حليفة الأسد الثانية، عن تأييدها وثقتها الكاملة بـ"بالمواقف والقرارات السورية تجاه أنقرة"، رفضت واشنطن تطبيع العلاقات، وهي التي تدعم بدورها الأكراد في شمال شرق سوريا. وتُقر رزق بأن ملف الأكراد في الشمال السوري قد يُعتبر عقبة أساسية لكنها تستدرك قائلة: "أنقرة تحاول مع واشنطن، وهذا كاف". والأسبوع الماضي، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، إن الأسد، "ارتكب أعمالا وحشية، وقواته ارتكبت جرائم حرب، وسنواصل العمل على محاسبة النظام، وتشجيع شركائنا وحلفائنا على عدم التطبيع معه". وأضاف في مؤتمره الصحفي: "أوضحنا أننا لن نطبع ولا نؤيد أية دولة تقوم بالتطبيع مع نظام الأسد". وتابعت رزق: "تركيا في موقف محرج، هي دولة عضو في حلف الناتو لكنها تسعى وراء مصالحها أيضا، خصوصا أن إردوغان يعتبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) جزءا من حزب العمال الكردستاني، المصنّف إرهابيا من قبله". واستبعدت الباحثة التركية أن "تقدم الولايات المتحدة لتركيا ما تريده، إلا أن هذا لا يعني عدم المحاولة معها". ومنذ أيام، أعلن أوغلو عزمه زيارة واشنطن، الأمر الذي أثار الشكوك حول تغير الموقف الأميركي تجاه الأكراد. ويتهم الباحث السياسي الدكتور جاویدان كمال، وهو ممثل حزب الاتحاد الديمقراطي في إقليم كردستان العراق، أنقرة بالعزم الدائم نحو "تدمير المصالح الكردية واحتلال المزيد من الأراضي السورية".وتابع كمال في حديث لمنصة "المشهد"، قائلا: "تركیا حاولت بكل السبل ضرب تجربة الادارة الذاتية لشمال وشرق سوریا عسكریا واقتصادیا وسیاسیا"، مؤكدا على أمله الكبير في واشنطن التي تعلم جيدا ما قدمه الأكراد من تضحيات في سبيل مواجهة تنظيم "داعش"، على حد تعبيره.دعم أميركيوفي السياق نفسه، شددت كبيرة المحللين في معهد "نيو لاينز" للاستراتيجيات والسياسات في واشنطن كارولين روز على أن "التقارب التركي مع النظام السوري هو استراتيجية مقصودة لتقويض وإضعاف النفوذ الذي يتمتع به الأكراد السوريون في الشمال الشرقي". وتوقعت روز السعي نحو "ترتيبات أمنية جديدة يمكن أن تزيد من الدوريات المشتركة وتساعد القوات التركية في نهاية المطاف على إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود الشمالية لسوريا". وتابعت: "إذا استمر التطبيع التركي السوري، فمن المحتمل أن تقدم القوات السورية والروسية سلسلة من مناطق النفوذ لتركيا، ما قد يؤدي إلى تهجير الأكراد السوريين وتفكيك البنية التحتية العسكرية والمدنية الكردية في المنطقة". وفي نهاية عام 2022، قصفت القوات الجوية والمدفعية التركية نحو 500 هدف للمقاتلين الأكراد في شمال العراق وسوريا، ولم تكن هذه المرة الأولى. بدوره، أكد المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأميركية ساميويل وربيرغ، في تصريحات لمنصة "المشهد"، على دعم واشنطن لـ"الشركاء في سوريا، ومن ضمنهم قوات سوريا الديمقراطية".واعتبر وربيرغ أن "هذا الدعم لن يتأثر بأي معطيات سياسية لأن قصد شركائنا في حملة القضاء على تنظيم داعش وقد بذلوا جهدا كبيرا وقدموا تضحيات وما زالوا يبذلون الكثير من الجهد دعما لهذه الحملة ضد التنظيم الإرهابي". وأكد الإبقاء على التواصل الدائم مع الأكراد، قائلا: "نعتقد أنهم يلعبون دورا هاما جدا في عملية إعادة الاستقرار في المناطق المحررة من داعش وغيرها من الأمور". لكن روز تتخوف من أن "الولايات المتحدة ستمتنع عن التدخل في الشراكة الأمنية الثلاثية التركية السورية الروسية، مما يجعل الأكراد عرضة للخطر في شمال شرق سوريا". بينما اتجهت رزق نحو تحميل مسؤولية الملف الكردي للدولة السورية، قائلة: "على دمشق السير نحو مفاوضات تحدد فيها رؤيتها تجاه مطالب الحكم الذاتي الذي لن توافق عليه بطبيعة الحال بسبب ما تحمله من مخاطر على وحدة الدولة". وكذلك أكد يوسف أن "الأكراد خائفون من دون أدنى شك من التطبيع التركي السوري، لكن ليس أمامهم سوى التفاهم مع الدولة السورية ويكون هناك مخرج لحل مليشيات قسد وعودة مؤسسات الدولة". وتساءلت رزق: "هل تتمكن واشنطن من إقناع أنقرة بعدم خوض معركة في الربيع ضد قسد؟"، مجيبة: "هذا يرتبط بما ستقدمه الولايات المتحدة في مفاوضاتها مع تركيا". (المشهد)