على مدار الأعوام الأربعة الماضية، شهدت سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط تناقضات شديدة، فقد اتبعت إدارة الرئيس جو بايدن سياسة مخالفة تماما للرئيس السابق دونالد ترامب وهو ما أثار تساؤلات عن مستقبل أميركا في المنطقة.على سبيل المثال، كانت من أول القرارات التي اتخذها بايدن هو إلغاء قرار ترامب بتصنيف جماعة "الحوثي" في اليمن كمنظمة إرهابية، وبدء التواصل والتفاوض مع إيران للتوصل لاتفاق نووي جديد.لكن بعد أقل من 4 سنوات، عاد بايدن لتصنيف (الحوثيين) كجماعة إرهابية ردا على هجماتها على السفن في البحر الأحمر، بالإضافة إلى تصاعد حدة المواجهة مع إيران واستهداف مواقع الحرس الثوري في سوريا والعراق."عدم وجود إستراتيجية"يرى المستشار بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية حسن أبو طالب، أن هذه المواقف الأميركية المتناقضة تظهر أن واشنطن لا تمتلك إستراتيجية واضحة فيما يتعلق بالتعامل مع المنطقة وحلفائها والقضايا الهامة فيه باستثناء إسرائيل.وأكد أبو طالب في حديثه مع منصة "المشهد" أن الولايات المتحدة تركز فقط على مصالحها وغير مبالية بمصالح حلفائها في المنطقة. وقال: "واشنطن تسعى لتحقيق مصالحها بما تراه هي وليس بالتوافق مع الحلفاء في المنطقة أو مصالحهم".وأشار إلى أن هذه فجوة كبيرة لا يمكن للدول العربية تجاوزها، لأنهم يسعون لتحقيق مصالحهم أيضا وليس مصالح أميركا، مضيفا "على واشنطن أن تدرك ذلك".ويتفق رئيس قسم الإعلام بجامعة الملك سعود الدكتور علي العنزي، مع هذا الرأي، وأشار إلى أن هذا التخبط ليس وليد اللحظة بل منذ إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، لكنه أصبح واضحا في عهد بايدن.وأكد العنزي في حديث خاص مع منصة "المشهد" أن هذا الارتباك يظهر أن أميركا على مدار الإدارات السابقة والحالية تفتقد لإستراتيجية واضحة تجاه المنطقة. وقال: "هذا التخبط منذ إدارة جورج بوش الابن عندما غزت العراق وأفغانستان بحجج واهية كأسلحة الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب والتي لم يثبت من ادعاءاتها أو حججها أي شي، كما أنها لم تنصت لنصائح أصدقائها في المنطقة، ومن ثم انسحبت من الدولتين بعد أن خلقت فوضى وعدم استقرار فيهما انعكس على أوضاع المنطقة برمتها".في المقابل، يرى كبير الباحثين في معهد الخليج بواشنطن حسين إبيش، أن "هذا ليس ارتباكاً بل تغييرا في السياسة". وقال: "كان بايدن يأمل في الترويج لاتفاقية سلام مع اليمن، والتحدث مع المتطرفين (الحوثيين)، ودمج تلك المفاوضات مع المحادثات النووية مع إيران".وأضاف إبيش في حديثه مع منصة "المشهد": "لم ينجح أي من ذلك، والآن يهاجم (الحوثيون) الملاحة الدولية في البحر الأحمر، مما أجبر الولايات المتحدة وبريطانيا على قيادة تحالف دولي لاستعادة الأمن البحري هناك. إنه تغيير في العلاقات مع (الحوثيين) على أساس تغير الظروف. ليس الارتباك".حرب غزةوأكد العنزي أن حرب غزة عززت هذا التخبط الأميركي وحالة عدم الموثوقية في واشنطن حيث انحازت بشكل مطلق إلى إسرائيل ودعمتها بكافة سبل الدعم غير آبهة باستقرار المنطقة ومصالح دولها.ويتفق أبو طالب مع ذلك، مؤكدا أن أميركا تريد أن تجبر الدول العربية على إقامة علاقات مع إسرائيل، في الوقت الذي لا تستطيع الضغط فيه على تل أبيب لمنح الفلسطينيين حقهم في إقامة دولة، وهو ما سيساعد في إحلال السلام بالمنطقة.وتلقت وزارة الخارجية الأميركية تحذيرات متعددة من مواقعها في الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة على خلفية الصراع في غزة، مما أدى إلى عقد اجتماع في واشنطن مع وكالات الاستخبارات لتقييم تلك التداعيات، وفقًا لمصادر تحدثت لشبكة "ABC".وذكرت إحدى البرقيات من البعثة الأميركية في المغرب أن المتعاونين السابقين في البلاد أكدوا أن الولايات المتحدة أصبحت "سامة" لأن دعم الإدارة لإسرائيل بعد هجوم "حماس" في 7 أكتوبر كان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه "شيك على بياض للرد الإسرائيلي".وأعرب دبلوماسيون في مناصب أخرى في الشرق الأوسط عن مخاوف مماثلة، وفقًا لمسؤول، الذي قال إن الدبلوماسيين في الدول ذات الأغلبية المسلمة في مناطق أخرى من العالم، مثل إندونيسيا، أعربوا أيضًا عن مخاوفهم.وبحسب التقرير فإن الضربة المستمرة لشعبية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يمكن أن يكون لها آثار واسعة النطاق على الدبلوماسية الأميركية، بما في ذلك الجهود الرامية إلى بناء تحالف من الدول للمساعدة في إعادة بناء غزة بعد تراجع القتال، وتشجيع إقامة العلاقات مع إسرائيل.وأكدت صحيفة "فايننشال تايمز" أن استمرار تحدي إسرائيل وإحجام الولايات المتحدة عن استخدام نفوذها الذي لا مثيل له على البلاد يؤجج الشكوك حول مدى تأثير الولايات المتحدة حقا في منطقة سعت إلى السيطرة عليها لعقود، كما يشوه صورتها في العالمين العربي والإسلامي."حليف غير موثوق به"ويرى المحللون أن السياسات الأميركية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، أثبتت للحلفاء أنها دولة "غير موثوقة فيها، بعد توقفها عن تقديم الدعم العسكري والاقتصادي لدول المنطقة، واستخدمه كورقة ضغط لخدمة مصالحها وهو ما أثار غضب الكثير من دول المنطقة".في فبراير 2021، فرض الرئيس بايدن قيودا على إرسال الأسلحة للسعودية، وهو ما قوض جهودها في حربها ضد جماعة "الحوثي" الموالية لإيران.كما حجبت إدارة بايدن خلال السنوات الأخيرة جزءا كبيرا من المساعدات العسكرية لمصر تحت دعوى "حقوق الإنسان".ومع انسحاب أميركا من أفغانستان، تحدثت تقارير عدة عن توجه أميركي للخروج من الشرق الأوسط، والتركيز على شرق آسيا لمواجهة الصين في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، وهو ما زاد من نقطة "عدم الثقة" في أميركا.وقال أبو طالب إن الولايات المتحدة لم تلتزم خلال السنوات الأخيرة بتعهداتها الاقتصادية والعسكرية لكثير من دول المنطقة، وتوقفت عن هذا الدعم، ما جعلها حليفا غير موثوق به.ويضيف العنزي أنه بسبب هذه المواقف الأميركية "تولدت لدى دول المنطقة التي كانت تعد نفسها أنها صديقة للولايات المتحدة عدم ثقة بها كصديق موثوق، وبدأت تبحث عن تنويع خياراتها مع دول أخرى كروسيا والصين والبرازيل والهند حتى لا تضع خياراتها في سلة واحدة".وأكد أبو طالب أن هذا الارتباك الأميركي له تأثيرات واضحة وخطيرة على أمن واستقرار المنطقة.وقال إن دول المنطقة تتبع سياسة حكيمة في إقامة علاقات مع أغلب دول العالم سواء روسيا أو الصين أو الهند أو الاتحاد الأوروبي أو دول أميركا اللاتينية.ويرى إبيش أن ما يحدث في المنطقة هو نقطة انعطاف في وجود أميركا بالمنطقة، وقال "ما سينتج عن هذه التوترات سواء التوصل لاتفاق وحالة من الاستقرار أو الحرب إما سيدفع دول المنطقة خطوة بعيدا عن واشنطن، أو يكون محطة على طريق استعادة المصداقية في واشنطن كضامن إقليمي".وقال العنزي: "إذا أرادت الإدارة الأميركية كسب ثقة أصدقائها في المنطقة عليها أن تكون راعيا نزيها للسلام في المنطقة من خلال الضغط على إسرائيل بإيقاف الحرب على غزة، والاعتراف بدولة فلسطين من خلال حل الدولتين ومراعاة مصالح أصدقائها في المنطقة، وعدم الكيل بمكيالين تجاه القضية الفلسطينية. ومراعاة مصالح دول المنطقة واستقرارها".