في خضم الصراع الذي تشهده إيران على السلطة وداخل البرلمان الذي يهيمن عليه المحافظون والرئيس مسعود بازشكيان، الذي يُنظر إليه كإصلاحي، والذي تجلّى بعزل البرلمان لوزير الاقتصاد وإقالة نائب الرئيس، أرسل الرئيس الأميركي رسالة إلى القيادة الإيرانية يقترح فيها العودة إلى المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني. تمثّل رسالة دونالد ترامب لحظة مهمة في العلاقات الأميركية-الإيرانية المتوتّرة، حيث تعد أول تفاعل مباشر منذ تولّيه لمهامه، في وقت يعتبرها الكثير من الإيرانيين في الداخل الإيراني مناورة تهدف إلى تعميق الانقسامات بين القيادة الإيرانية، خصوصاً وأن المحافظين في إيران، الذين يشككون في نوايا الولايات المتحدة، يعتبرون شروط ترامب للتفاوض قاسية. في الوقت ذاته، يعاني الاقتصاد الإيراني من ضغوط شديدة بسبب العقوبات الاقتصادية الأميركية المستمرة، مما أدى إلى تفاقم مشاكل مثل نقص الطاقة وتراكم الديون في قطاعات مختلفة، بما في ذلك الزراعة والرعاية الصحية، وهي تحدّيات سلّط الرئيس بازشيكيان الضوء عليها، مؤكداً على صعوبة تلبية الحكومة للاحتياجات الأساسية للمواطنين في ظل إدارة تبعات العقوبات.هل الضربة الأميركية لإيران باتت خياراً مطروحاً؟ تظهر ملامح سياسة ترامب تجاه إيران من خلال إستراتيجية "الضغط الأقصى"، التي تعتمد على فرض عقوبات اقتصادية صارمة وتقييد النفوذ الإيراني في المنطقة، بالتزامن مع التهديدات المتواصلة بالضربة العسكرية في محاولة لإضعاف الموقف الإيراني التفاوضي. منذ انسحابه من الاتفاق النووي (JCPOA) في عام 2018، عمل ترامب على إعادة فرض العقوبات الدولية التي تم رفعها بموجب الاتفاق، مستهدفاً قطاعات حيوية في الاقتصاد الإيراني، وخاصة صادرات النفط. وانخفضت صادرات إيران النفطية من 2.5 مليون برميل يومياً في 2017 إلى حوالي 350 ألف برميل في 2020، مما ألحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد الإيراني وأضعف قدرة طهران على تمويل أنشطتها الإقليمية. بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية، تشدد إدارة ترامب على ضرورة تقليص إيران لقدراتها الصاروخية والطائرات المسيّرة، والتي تعتبرها واشنطن جزءاً من إستراتيجية إيرانية أوسع لزعزعة استقرار المنطقة. ورغم إبداء ترامب اهتماماً بالتفاوض مع إيران، إلا أن إدارته تؤكد بقاء الخيار العسكري على الطاولة. وقد حذر هو نفسه إيران من أن الفشل في التوصل إلى اتفاق جديد قد يؤدي إلى صراع، قائلاً "لا يمكننا السماح لهم بامتلاك سلاح نووي". لكن، يبقى الخيار العسكري محفوفاً بالمخاطر. فالضربات الجوية ضد المنشآت النووية الإيرانية قد تؤدي إلى تصعيد سريع في المنطقة، خصوصا مع وجود قوات إيرانية ووكلاء مدعومين من طهران في دول مثل العراق ولبنان واليمن. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي أي ضربة عسكرية إلى تعطيل الإمدادات النفطية العالمية، مما قد يسبب اضطرابات اقتصادية واسعة النطاق. ويرى المحلل السياسي والكاتب الإيراني، وجدان عبد الرحمن، في تصريحاته إلى "المشهد" أن "الرئيس الأميركي من خلال الرسائل الثلاث التي أرسلها إلى القيادة الإيرانية، يقدّم مبررات لسياساته تجاه طهران، مع علمه بأن الأخيرة سترفض المطالب الأميركية التي تعتبرها شروطاً تعجيزية تهدد وجود النظام الإيراني نفسه". ويشرح عبد الرحمن أن "تنفيذ المطالب الأميركية سيعني عودة إيران إلى ما قبل الثورة الإسلامية، مع إلغاء برامجها النووية والعسكرية وحتى الاقتصادية. ورغم البراغماتية المعروفة للنظام الإيراني في التعامل مع الأزمات، إلا أن المطالب الأميركية تعادل سقوط النظام". ويؤكد عبد الرحمن أن "ترامب لا يستبعد خيار الضربات الجوية ضد إيران، والتي قد تستهدف قادة كباراً في النظام، بما في ذلك المرشد الأعلى علي خامنئي، بالإضافة إلى المنشآت العسكرية والنووية. هذه الضربات، إذا ما حدثت، ستكون واسعة النطاق وهادفة إلى شل قدرة إيران على الرد، مما قد يؤدي إلى تفجير احتجاجات داخلية ضد النظام". من جانبه يقول الكاتب والباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية ألب تيكين دورسون أوغلو في حديث إلى "المشهد" إنّه "لم يعد هناك أي صوت داخل إيران يدعو إلى التفاوض مع أميركا، خصوصًا بعد استقالة جواد ظريف وفقدان الإصلاحيين لقوّتهم. في الوضع الحالي إيران لن تخوض أي مفاوضات مع أميركا إلا إذا تغيرت طريقة تعامل الأخيرة وتوقفت عن التهديد". ضعف الموقف الإيراني في المفاوضات تشير التطورات الأخيرة إلى أن الموقف الإيراني قد أصبح أكثر ضعفاً في أي مفاوضات محتملة. فقد ساهمت الخسائر العسكرية التي لحقت بها في المنطقة، خصوصاً في سوريا، في إضعاف نفوذها الإقليمي. كما أن العقوبات الأميركية ألحقت أضراراً جسيمة باقتصادها، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وتراجع النمو الاقتصادي. كما، نجحت إسرائيل في تقليل قدرات "حزب الله" الصاروخية بنسبة تصل إلى 80%، مما قلل من التهديد الفوري الذي تشكّله القوات الوكيلة لطهران. هذه الخسائر تجعل إيران في موقف أضعف عند التفاوض، حيث قد تضطر إلى تقديم تنازلات أكبر لضمان تخفيف العقوبات. وردّاً على الضغوط الأميركية، تركّز إيران على تعزيز العلاقات مع روسيا والصين، ساعية للحصول على دعم من هذه الدول بدلاً من السعي للتوصل إلى حل وسط مع الولايات المتحدة، حيث يمكن اعتبار المناورات البحرية المشتركة لكل من الصين وروسيا وإيران تحت اسم "حزام الأمن-2025" في خليج عمان، استعراضاً مهماً للتوجّه الإيراني المذكور.يقول عبد الرحمن "إيران تعاني من أزمات اقتصادية حادة، تشمل نقصاً في المياه والكهرباء والغاز، بالإضافة إلى التضخم الكبير وانهيار العملة المحلية. هذه الأزمات تزيد من ضعف الموقف الإيراني، خاصة إذا ما تعرضت منشآتها الحيوية لضربات أميركية. في مثل هذا السيناريو، قد يشهد الداخل الإيراني ثورات عارمة، حيث يرى الكثير من الإيرانيين أن سياسات النظام هي السبب الرئيسي وراء تدهور الأوضاع، وليس الضغوط الخارجية".وساطات محتملة كل ما سبق يجعل من إمكانية بدء المفاوضات واردة، خصوصاً مع إعلان روسيا استعدادها للعب دور مسهّل فيها، فيما يشير وصول الرسالة الأميركية عبر أبو ظبي للمرة الأولى بعد أن كانت حكراً على الوساطة القطرية أو العمانية، إلى احتمال دور إماراتي أكثر ثقلاً في الملف المذكور، مع الأخذ بعين الاعتبار قدرة أبو ظبي في التواصل مع الفرقاء في كل من واشنطن وتل أبيب وطهران، والتنسيق عالي المستوى مع موسكو، الوسيط الآخر. في المقابل يرى دورسون أوغلو أن "إيران ترد على هذه التهديدات بأنها قادرة على إغلاق مضيق هرمز إذا تعرضت لضغوط كبيرة، مما قد يؤثر على المنطقة بشكل كامل". ويضيف دورسون أوغلو إن "علي خامنئي أكد في خطاباته أن التفاوض مع أميركا ليس له أي فائدة، واستشهد بتجربة الاتفاقية السابقة التي لم تلتزم أميركا بها، وأكد أن التفاوض مع واشنطن ليس عقلانياً ولا منطقياً". من المرجح أن تعزز العقوبات المركّزة نفوذ التيار المتشدد داخل إيران، مما يقلل من احتمالات التفاعل الدبلوماسي، في ظل تكريس التصور المتزايد بأن الردع النووي بات ضرورياً لأمن البلاد في مواجهة التهديدات الأميركية-الإسرائيلية. فيما تبدو سياسة ترامب تجاه إيران مزيجاً من الضغوط الاقتصادية والعسكرية، مع ترك الباب مفتوحاً للتفاوض، فيما يظل الخيار العسكري مطروحاً، خصوصا في ظل التقدم المستمر لإيران في برنامجها النووي. (المشهد )