تحدّيات كبيرة شهدتها "القارة العجوز" عام 2023، ستجرّها معها إلى العام 2024، وقد تكون الأصعب في تاريخها بعد "البريكسيت" 2016، وبعد بداية الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة، حيث امتُحن الاتحاد الأوروبيّ الذي تلفّ مستقبله الكثير من الضبابية، بعد تعرّضه لشتى أنواع الضغوط أهمّها اقتصادية مع ارتفاع أرقام التضخم إلى أرقام غير مسبوقة، مرورًا بالتظاهرات الكبيرة التي شهدها عدد من الدول الأوروبيّة التي تعترض على سياسات الاتحاد، وصولًا إلى صعود اليمين المتطرّف الذي بدأ يُقلق المفوضيّة الأوروبية خصوصًا مع أحزاب وشخصيات لا تؤمن بوحدته.للإضاءة على أبرز التحديات الاقتصاديّة كان لمنصّة "المشهد" حديث مع الخبير الاقتصاديّ، المحامي والكاتب أديب طعمة الذي أبدى تشاؤمه في نهاية هذا العام، معتبرًا أنّ "الاتحاد الأوروبي يواجه حربًا على جبهتين رئيسيّتين هما أوكرانيا وغزة، ما يضيف تحدّيات سياسية إلى التحدّيات الاقتصادية".مشهد أوروبي قاتميصف طعمة المشهد الأوروبيّ بالقاتم، مُختصرًا الأحداث الاقتصاديّة "الخطرة" التي شهدتها البلاد بدءًا بموجات "الهجرة الكثيفة وكيفية مواجهتها، وصولًا إلى ارتفاع التضخم بشكل حاد، فقد بلغ متوسط التضخم في الاتحاد الأوروبيّ 8.6% في يونيو، وهو أعلى مستوى منذ عام 1986. وقد يصل وفق الإحصاءات إلى 9% في العام 2024، وأدى ذلك إلى مخاوف من حدوث ركود اقتصادي، ودفع البنك المركزيّ الأوروبيّ إلى رفع أسعار الفائدة، وكانت هناك العديد من العوامل التي أدت إلى ارتفاع التضخم في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك: الحرب الروسية- الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وهو ما أدى إلى ارتفاع التضخم بشكل عام.الانتعاش الاقتصاديّ بعد جائحة كورونا، الذي أدّى إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات، وهو ما أدى بالتالي إلى ارتفاع الأسعار.اضطرابات سلاسل التوريد الناجمة عن جائحة كورونا والتي أدت إلى ارتفاع أسعار السلع، وهو ما أدى إلى ارتفاع التضخم.وأشار طعمة إلى أنّ "ارتفاع التضخم أدى بدوره إلى مجموعة من الآثار الاقتصادية السلبية في الاتحاد الأوروبي، نذكر منها انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، وزيادة أعباء الديون وزيادة المخاطر المالية، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة، وهو ما أدى إلى زيادة الفقر وظهور معالم انخفاض أسعار العقارات في المدن الرئيسة في أوروبا". وشدد طعمة على أنّ "الركود الاقتصاديّ يسيطر على بلدان أوروبا أي في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، وهذا ما تُظهره المؤشرات الاقتصادية كمؤشر النشاطات الصناعية والخدمات الناتج المحلّي الإجمالي".تأثيرات اقتصادية سلبيةمن جهة ثانية، تطرّق طعمة إلى التأثيرات الاقتصادية السلبية الناتجة عن الحرب في قطاع غزة، خصوصًا مع إعاقة حركة الملاحة والتجارة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر، الذي يُعتبر من أهم الممرات البحرية في العالم، حيث يربط بين المحيط الهنديّ والبحر الأبيض المتوسط، ويمر عبره نحو 10% من التجارة العالمية. كما يمر عبره نحو 20% من إمدادات النفط العالمية. والتي يمكن تلخيصها في: ارتفاع أسعار السلع والخدمات: أدت تعطيل حركة الملاحة الدولية إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات في دول العالم، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي.ارتفاع أسعار الطاقة: تعدّ دول الاتحاد الأوروبيّ من أكبر مستوردي الطاقة في العالم، حيث تستورد أكثر من 50% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج. وتعدّ روسيا من أكبر مورّدي الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي.اضطرابات التجارة: أدت الحرب إلى تعطيل حركة الشحن عبر قناة السويس، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة من آسيا. كما أدت الحرب إلى اضطرابات في حركة النقل الجوي، ما أدى إلى ارتفاع أسعار تذاكر السفر.تراجع السياحة: أدى الحرب إلى تراجع السياحة في دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصًا في دول البحر الأبيض المتوسط.أمّا الحلول التي اقترحها طعمة لمواجهة كلّ هذه التحديات الاقتصادية في السنوات المقبلة، وخصوصًا في العام 2024، فرأى أنه "على البلدان الأوروبية البحث عن تغيير في النموذج الاقتصاديّ الحالي من دون الانزلاق في التقشّف في المجال الاقتصادي، وفي التطرّف في المجال السياسيّ خصوصًا أنّ سنة 2024 هي سنة الانتخابات في العديد من الدول، وأولها الولايات المتحدة وروسيا".وشدّد طعمة على أنه على البلدان الأوروبيّة ستتمكّن من "مواجهة التحديات في العودة الى قيمها الأساسية، عبر اتّباع سياسة شفافة، واضحة وموحدة من جهة وعدم الخوف من الخروج من منطقة الراحة (zone de confort)، واعتماد تنظيمات تساعد على استعادة قدرتها التنافسية في عالم يتّجه أكثر فأكثر إلى آسيا، كمحرك للاقتصاد العالمي، واستعمال على سبيل المثال الأدوات المالية الجديدة، وإعادة النظر في مفهوم العمل والرواتب وخلق فرص عمل جديدة". وختم طعمة قائلًا: "في العام 2024 قد تنجح البلدان الأوروبية في السيطرة على التضخّم، لكنّ التحدّيات كبيرة، وعليها محاربة البطالة وخلق انتعاش اقتصادي مُستديم، وتجنب التطرف والاضطرابات الداخلية". عبء ملفّ المهاجرينفي حديث لمنصّة "المشهد" مع الدكتور في العلوم السياسيّة في جامعة السوربون في باريس، الخبير الجيوسياسيّ، فرنسوا كوستانتيني، اعتبر أنّ أبرز التحديات السياسية الخطيرة التي تحملها معها دول أوروبا إلى العام 2024، هو عبء ملفّ المهاجرين الذي يزداد ثقلًا، إضافة إلى ملفّ الهجرة المُثير للجدل وتداعياته في أوروبا، فالضغوط على الشعب الأوروبيّ ستزيد، ومع أنّ بعض الدّول الاوروبيّة ستكون منفتحة على سياسة الهجرة، ستتّجه بعض الدول الأخرى إلى اتخاذ إجراءات صارمة، ومع أنّ العام 2023 انتهى بتوافق أوروبيّ على إقرار إصلاح قانون الهجرة في أوروبا، فقد لاقى هذا الأخير انتقادات كبيرة، بالاضافة أيضًا إلى إقرار قوانين في داخل الدّول الاوروبيّة كما هو قانون اللجوء أو الهجرة مثلًا في فرنسا، ولكن عمومًا لم يتمّ التوصل إلى حلول معيّنة بالنسبة لأوروبا.أمّا التحدي الثاني وفق كوستانتيني، فهو التراجع الملحوظ للنفوذ الأوروبيّ، بحيث شهد النّفوذ الأوروبيّ تراجعًا كبيرًا للغاية على مستوى القارة الإفريقيّة على سبيل المثال، بعد انسحاب فرنسا التي كانت تمثّل السياسات الأوروبيّة في إفريقيا، وتراجع ملحوظ للدور الأوروبيّ لصالح الولايات المتّحدة، وروسيا والصّين. بالإضافة إلى ضعف النفوذ الأوروبيّ في كلّ من الشرق الأوسط في ما يتعلّق في المسائل المهمّة لصالح سياسات الاتحاد الأوروبيّ وتجيير كلّ القرارات المهمّة لقيادة الناتو بقيادة الولايات المتحدة.وتحدّث كوستانتيني عن الخلافات في وحدة الصفّ الأوروبيّ، وعدم بناء سياسات مستقلّة لأنه خلال كلّ اجتماع في المفوّضيّة الأوروبيّة لاتخاذ القرارات المفصليّة في ما يخصّ السياسات الأوروبيّة وإقرار حزم الدعم الاقتصاديّ لأوكرانيا والسياسات الدفاعيّة المستقلّة، كانت تشهد خلافات كبيرة بين القادة الأوروبيّين، وكل مرّة كانوا يحتاجون إلى مفاوضات كبيرة من أجل التوصّل إلى توافق معيّن. وقد تراجعت أوروبا خطوات كبيرة إلى الخلف في ملفّ استقلاليّتها السياسيّة، بعد أن كانت تريد أن تبنّي سياسيات مستقلّة عن سياسات واشنطن.صعود اليمين المُتطرّفووفق المنظّمة الأوروبيّة للسياسات، فإنّ التحدّي السياسي الأكبر الذي واجعته أوروبا عام 2023، كان "صعود تيَّار اليمين المُتطرّف في أوروبا" المتمثّل في: حزب "الجبهة الوطنية" الذي ترأسه مارين لوبان في فرنسا، الذي أضحى كتلة برلمانيّة كبيرة ومؤثّرة، وقد وصل عدد مقاعده إلى أكثر من 80 مقعدًا في الجمعيّة الوطنيّة، بعد أن كان العدد قليلًا خلال الدورة السابقة إذ لم يتجاوز حينها 7 مقاعد.حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليمينيّ الشعبويّ وهو الحزب الثاني بعد الحزب الحاكم وفق استطلاعات الرأي، وقد حقّق نتائج كبيرة في انتخابات ولاية بافاريا.فوز "حزب الحرية" اليمينيّ المتطرف المناهض للإسلام، بزعامة خيرت فيلدرز بالانتخابات البرلمانية في هولندا.وجود رئيسة وزراء إيطاليا، جيورجيا ميلوني اليمينية، التي تُعتبر واحد من أكثر الأصوات حدّة بشأن الهجرة في الاتحاد الأوروبي، والتي تحذّر بشدة من الجهود الرامية إلى استبدال الإيطاليّين الأصليّين بأقليات عرقية.عام 2023، لم يكن الأفضل للدول الأوروبيّة، بل كان مُثقلًا بالأعباء والتحديات والامتحانات، فهل ستنجح أوروبا في الخروج من دائرة الخطر التي تُطوّقها، أم ستبقى أسيرة لتلك التحدّيات التي قد تتزايد في العام 2024؟ (المشهد - باريس)