حتى الأمس القريب كانت كندا تُعتبر نموذجاً عالمياً لسياسات الهجرة المنفتحة، ومثالاً يُحتذى به من قبل الدول الأخرى. يشكّل المولودون في الخارج أكثر من ربع سكانها، في دليل على الدور الكبير الذي تلعبه الهجرة في المشهد الديموغرافي والاقتصادي للبلاد.تاريخياً، اعتمدت كندا بعد استقلالها عن المملكة المتحدة في عام 1867 على برامج الهجرة وشجّعت الاستيطان في المناطق الريفية كسبيل لتدوير عجلة البلاد الاقتصادية، وبعد الحرب العالمية الثانية، غيرت نهجها القائم على الانتقائية في استقبال المهاجرين، معبّرة عن ترحيبها بالجميع من دون استثناء في إطار برامج هجرة أكثر شمولية.الهجرة إلى كنداتعتبر سياسات باب الهجرة المفتوحة سلاح كندا لمواجهة شيخوخة القوى العاملة وانخفاض معدلات الخصوبة. في عام 2023، شهدت البلاد زيادة سكانية كبيرة تجاوزت 1.2 مليون شخصاً، جاءت في الغالب من الهجرة، مما أدى إلى نمو سكاني بنسبة 3.2%، وهو أعلى معدل سنوي منذ عام 1957. وهذا النمو جعلها تتفوق على نظرائها في مجموعة السبع (G7) وحتى الدول الأكثر كثافة سكانية مثل الهند. لكن، على الرغم من كون نظرة الكنديين إلى مسألة الهجرة ايجابية عبر التاريخ، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحوّلاً في الرأي العام. فقد أظهر استطلاع عام 2023 أن 44% من الكنديين يعتقدون بأن هناك "الكثير من الهجرة والمهاجرين"، بزيادة عن 27% نسبة العام السابق. كما ساهمت المخاوف المتعلقة بالقدرة على تحمل تكاليف الإسكان والمعيشة في هذا التغيير. ومع ذلك، لا تزال سياسة الهجرة في كندا تُعتبر أكثر إيجابية مقارنةً بنظيرتها في الولايات المتحدة مثلاً، ويرجع ذلك جزئياً إلى عدم وجود هجرة غير شرعية واسعة النطاق. يمكن تقسيم المهاجرين إلى كندا ضمن 4 فئات أساسية: المهاجرون من خلال برامج اقتصادية، بنظام قائم على النقاط يعرف باسم "الدخول السريع"، وهو يوفّر ميزة للمرشحين الأصغر سناً الذين لديهم عروض عمل ومستويات عالية من التعليم.لم الشمل والرعاية الأسرية: والذي يوفّر للمقيمين الدائمين القانونيين إمكانية جلب أفراد عائلتهم.الحماية واللجوء: حيث يتم منح المتقدّم بالطلب إقامة دائمة إلى حين حصوله على الجنسية بعد عملية فحص صارمة.الأسباب الإنسانية: ويتم منح عدد قليل من الأفراد الإقامة الدائمة بناءً على أسباب إنسانية، مع الأخذ في الاعتبار الصعوبات التي قد يواجهونها إذا تم إرجاعهم إلى بلدانهم الأصلية.سياسة جاستن ترودوفي ظل المتغيّرات، تفكر الحكومة الكندية في تقليل النسب السنوية لقبول الإقامة الدائمة، وتخطط حالياً لاستقبال 500,000 مقيم دائم في كل من عامي 2025 و2026، بزيادة عن 485,000 في عام 2024، مع ذلك، تتزايد النقاشات الحكومية وتقييماتها حول ما إذا كان ينبغي تعديل هذه الأهداف استجابةً لمطالب الكنديين. وأكّد رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على ضرورة تحقيق توازن في سياسة الهجرة تلبي الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للكنديين، مع ضمان نجاح اندماج القادمين الجدد. وتأتي هذه التغييرات في سياق ارتفاع معدلات البطالة بين المهاجرين، والتي تصل حالياً إلى 11.6%، وترتفع هذه النسبة لدى الشباب لتصل إلى 13.5%، وهو أعلى مستوى منذ عقد، ما يؤثر على مستقبل ترودو وحزبه السياسي في وجه تنامي شعبية حزب المحافظين بخطابه الشعبوي.وأعلنت الحكومة الكندية، برئاسة ترودو، عن تغييرات كبيرة في برنامج العمال الأجانب المؤقتين (TFW) في ظل ارتفاع معدلات البطالة بين المهاجرين والشباب الكنديين. الإجراءات الحكومية الجديدة جاءت بعد زيادة ملحوظة في عدد العمال الأجانب المؤقتين، وخصوصًا العمال ذوي الأجور المنخفضة، مما أثار قلقاً بشأن توفر الوظائف للمواطنين الكنديين. في عام 2022، منحت كندا أكثر من 600,000 تصريح عمل مؤقت، مما يعكس التزامها بجذب العمال المهرة، مع هدف استقبال 500,000 مهاجر جديد سنوياً بحلول عام 2025، على الرغم من أن هذا الهدف الطموح قد أثار مخاوف لدى بعض الكنديين بشأن الضغوط المحتملة على الإسكان والخدمات الاجتماعية.العمال الأجانب في كنداتسعى الحكومة اليوم إلى تقليل عدد العمال الأجانب ذوي الأجور المنخفضة المسموح لهم بالعمل في كندا. وتأتي هذه الخطوة بعد زيادة تاريخية في عدد هؤلاء العمال، والتي يجادل بعض الخبراء بأنها ساهمت في ارتفاع معدلات البطالة بين المهاجرين والشباب. وتمنع اللوائح الجديدة أرباب العمل في المناطق ذات البطالة العالية (بمعدل 6% أو أكثر) من توظيف العمال الأجانب ذوي الأجور المنخفضة، باستثناء بعض القطاعات الحيوية مثل الزراعة والرعاية الصحية. كما تحدد عقود العمال الأجانب ذوي الأجور المنخفضة بسنة واحدة بدلاً من سنتين، وذلك بهدف ضمان عدم الاعتماد على العمالة الأجنبية المؤقتة على حساب الفرص المتاحة للعمال الكنديين. بالإضافة إلى ذلك، تمنع الإجراءات الجديدة أصحاب العمل من توظيف أكثر من 10% من إجمالي قوتهم العاملة من خلال برنامج العمال الأجانب المؤقتين، ما دفع بالجهات ذات الصلة مثل غرفة التجارة الكندية ورابطة الأعمال المستقلة الكندية للتعبير عن قلقها بشأن تأثير هذه القرار على الشركات الصغيرة والعجلة الاقتصادية للبلاد. وتباينت ردود الأفعال على إعلان الحكومة، حيث انتقد نواب الحزب المحافظ القرار باعتباره علامة على سوء إدارة سياسات الهجرة، في حين جادل بعض الناشطين في حقوق العمال والمهاجرين بأن مشاكل البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة تنبع من الاستغلال المنهجي والإخفاقات السياسية وليس من وجود العمال الأجانب، وسط جدل خبراء بالحاجة إلى إصلاحات أكثر شمولاً لمعالجة القضايا الأساسية التي تؤثر على سوق العمل واندماج المهاجرين. وشهد قطاع العمال الأجانب المؤقتين زيادة كبيرة في كندا، حيث ارتفع العدد من حوالي 15,800 في عام 2016 إلى أكثر من 83,600 بحلول عام 2023. وقد أثارت هذه الزيادة السريعة نقاشات حول استدامة مثل هذه البرامج وتأثيرها على سوق العمل الكندي. يقول فادي د.، وهو مهاجر من لبنان وصاحب مشاريع صغيرة في مدينة كالغيري بمقاطعة البيرتا الكندية، في حديثه إلى منصّة "المشهد": "السوق الكندية بحاجة إلى المزيد من اليد العاملة، لكن المشكلة في استغلال برنامج استقدام العمال كوسيلة للهجرة ما أدّى إلى خلل في عدد العمال ومستوياتهم". ويضيف فادي، المستثمر في قطاعات تجارية وخدمية مختلفة: "لا يمكن لكندا في الظروف الحالية الاستغناء عن العمالة والوافدة، ولكن أعتقد بأنه سيكون هناك إجراءات أكثر صرامة وتدقيق لأصحاب العمل الموقّعين على عقود استقدام أيد عاملة للتأكد من كونها عقوداً حقيقية لا وهمية بهدف الهجرة والحصول على الجنسية فقط". الطلّاب الدوليون في كندامثّلت زيادة عدد الطلاب الدوليين في كندا سلاحاً ذا حدين؛ فبينما يوفر هؤلاء إيرادات كبيرة للمؤسسات التعليمية، حيث إنهم يدفعون رسوماً دراسية أعلى بكثير من الطلاب المحليين، فإن أعدادهم المتزايدة قد فاقمت أزمة السكن وساهمت في ارتفاع مستويات التضخّم السكني والمعيشي. في عام 2023، كان لدى كندا أكثر من 1 مليون طالب دولي، بزيادة قدرها 245% خلال العقد الماضي. لكن الحكومة أعلنت عن تدابير صارمة تهدف إلى تقييد تصاريح الطلاب الدوليين الممنوحة في البلاد. مع السياسات الجديدة، من المتوقع أن يتم تقليص عدد تصاريح الدراسة الدولية بأكثر من النصف، مما يثير القلق بين الطلاب بشأن مستقبلهم في كندا.تقول ميشان هولين، وهي طالبة كيمياء حيوية في جامعة تورونتو، في حديثها إلى منصّة "المشهد": "أعاني كما غيري من الطلّاب الوافدين القلق من حالة من عدم اليقين بخصوص وضعنا، في ظل التقارير حول نيّة الحكومة بإلغاء برنامج الهجرة عبر خطوتين، والتي كانت تسمح للطلاب بالتقدّم للحصول على الإقامة الدائمة المخوّلة لمنح الجنسية بعد التخرّج". وتضيف هولين البالغة من العمر 23 عاماً: "من جهة نجدّ من أجل التفوّق في الدراسة، ومن جهة أخرى نكافح للاستمرار في مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة وتحدّيات السكن والضغوط المالية، وكل ذلك دون امتلاك اليقين بالوضع المستقبلي". بالنظر إلى كل ما سبق يمكن القول بعدم وجود خيار أمام كندا سوى الاستمرار في سياسات الباب المفتوح للهجرة، لكن مع الحرص على تحقيق التوازن بين الحاجة إلى النمو الاقتصادي والاهتمامات العامة بشأن الإسكان والخدمات الاجتماعية، ما يعني زيادة القيود والصعوبات أمام اللجوء خلال السنوات القادمة، فيما تظل الأولوية القصوى اليوم إنشاء نظام يدعم القادمين الجدد مع ضمان تلبية احتياجات المجتمع الكندي.(المشهد)