أبدت تركيا في الأعوام الأخيرة اهتماما متزايدا للانضمام إلى مجموعة دول "البريكس"، والتي تمثل تكتلاً من الدول الناشئة التي تمتلك اقتصادات كبيرة ولها تأثير متزايد في الاقتصاد العالمي، وتضم البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا، فيما انضمت إليها مؤخرًا دول جديدة مثل إيران، والإمارات العربية المتحدة، وإثيوبيا، ومصر. الرغبة التركية ظهرت بشكل واضح منذ عام 2018، وخلال قمة "البريكس" التي عُقدت في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا، إذ عبّر حينها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن رغبة تركيا في الانضمام إلى المجموعة.تركيا والانضمام إلى "البريكس"في وقت سابق من الشهر الحالي، قالت وكالة "بلومبرغ" نقلا عن مصادر مطلعة إن السلطات التركية تقدمت بطلب للانضمام إلى مجموعة "بريكس". وبحسب "بلومبرغ" قد يتم النظر في مسألة توسيع المجموعة خلال القمة القادمة، التي ستعقد في الفترة من 22-24 أكتوبر في مدينة قازان الروسية. وهناك مقترحات أيضا بأن يحضر إردوغان القمة، حيث تتطلب عملية الانضمام موافقة جميع الأعضاء الحاليين، مع مناقشة كيف ستكون سياسة تركيا مع المجموعة بما يتوافق مع أهدافها ومصالح الدول الأعضاء. وشكلت رئاسة روسيا لمجموعة "البريكس" عاملاً مهماً في توجه تركيا نحو المجموعة، إذ لعبت موسكو دوراً مهماً في تقارب تركيا مع الدول الآسيوية في السنوات الأخيرة.ورحب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت سابق من هذا العام باهتمام تركيا بالتكتل ووعد بأن موسكو "ستدعم هذا الطموح والرغبة في أن نكون معاً مع دول هذا التحالف، وأن نكون معاً وأقرب لحل المشاكل المشتركة". وبعد الحرب الروسية الأوكرانية وتعرض روسيا للعقوبات، سعت مجموعة "البريكس" إلى إنشاء عملة مشتركة لإلغاء الدولار في التجارة والالتفاف على العقوبات الغربية، وبالتالي قد يشكل انضمام أنقرة إلى المجموعة دفعا مهما في هذه الخطوة. في المقابل، تسعى تركيا لتوسيع دورها في النظام العالمي، سواء من خلال "البريكس" أو من خلال تكتلات دولية أخرى. وليست تركيا البلد الوحيد الذي تقدم بطلب للانضمام إلى "البريكس"، فقد تقدمت حوالي 20 دولة أخرى، ما دفع المجموعة إلى وضع إجراءات التوسع. صعود الاقتصادات الآسيوية يقول المحلل السياسي المتخصص في الشأن التركي محمود علوش في حديث إلى منصة "المشهد" إن "هناك دوافع متعددة لتركيا للانضمام إلى "بريكس"، تسعى أنقرة لتنويع شراكاتها الخارجية مع الشرق في إطار تعزيز نظرتها لنفسها في السياسة الدولية كقوة توازن بين الشرق والغرب. من جانب آخر، يجلب الانضمام للمجموعة فوائد اقتصادية متصورة لتركيا من خلال تعزيز تفاعلاتها الاقتصادية مع دول المجموعة، خصوصا روسيا والصين وهذا يساعدها في تقليص اعتمادها الاقتصادي على الغرب". ويضيف علوش أن "مركز القوة الاقتصادية العالمي لم يعد يتمحور حول الغرب وينتقل إلى الشرق مع صعود الاقتصادات الآسيوية". بدوره، يشرح الباحث السياسي د.مهند حافظ أوغلو في حديثه إلى "المشهد" أن تركيا تسعى في هذا التحرك إلى هدفين: الأول: أن تكون لها خطة "باء" بديلة عن وجودها في المجموعة الغربية بشكل عام، وأن يكون لديها محط قدم وثقل في دول المشرق الصاعدة ضمن نظام دولي جديد، حيث تعتبر "البريكس" الحجر الأساس في هذا النظام الدولي الجديد. الثاني: إرسال رسائل ضغط سياسية مباشرة بثوب اقتصادي للدول الغربية، وتحديدا الحليف الأساسي (الولايات المتحدة الأميركية) التي لطالما كانت لا تريح تركيا في الكثير من الملفات، بل ونستطيع القول إنها (الحليف العدو) لتركيا وهذا لم يحدث في تاريخ أي دول متحالفة، إلّا بوجود إدارات متقلبة.هل تخرج تركيا من حلف الناتو؟ انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي في عام 1952، وفي السياق ذاته بدأت محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2005، لكن المفاوضات توقفت منذ سنوات بسبب خلافات عدة بين تركيا ودول الاتحاد. في السنوات الأخيرة وبعد خلافات أنقرة المتكررة مع الغرب، برزت تساؤلات حول خروج تركيا من حلف الناتو، ولكن حتى الآن، لم تقم تركيا بأي خطوة رسمية للخروج من الحلف، كذلك الحلف لم يقم بأي خطوة في هذا الإطار، في وقت تعدّ فيه أنقرة عضوا رئيسيّا في الحلف، يمتلك ثاني أقوى جيش بعد الولايات المتحدة، كذلك تلعب دوراً إستراتيجياً مهما بسبب موقعها الجغرافي الذي يربط بين أوروبا وآسيا. ولا يعتقد حافظ أوغلو بأن خروج أنقرة من حلف الناتو مطلب متوسط أو بعيد المدى لتركيا، مشيرا إلى أن الأخيرة "من الدول المؤسسة للحلف، ووجودها فيه أساسي ومهم، بل وهو يحرج الدول الغربية بقيادة واشنطن من خلال أنها تفرض عليها نوعا من الحماية والتعاون والدفاع عن تركيا حتى في ظل وجود سياسات أميركية متقلّبة". ويلفت حافظ أوغلو إلى أن "الحلف يؤكد في ميثاقه الداخلي على الدفاع عن أي دولة تتعرض من دول الأعضاء لأي مخاطر أو هجمات، وهذا يجعل تركيا إلى حد ما مطمئنة، لذلك ليس هناك هدف لتركيا للخروج من الناتو ولا حتى من العباءة الغربية، هي فقط تريد أن تكون هناك توازنات ما بين الشرق الغرب". وحول ما إذا كانت تركيا ستتجه أكثر نحو الشرق، يبين حافظ أوغلو أن "هذا يعتمد على خطوات أساسية من واشنطن والعواصم الغربية عموما تجاه أنقرة وكيف سوف يتصرفون حيال مخاوفها الأمنية فضلا عن عدم شن هجمات اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة على الاقتصاد التركي". وفي هذا الإطار يعتقد علوش أن:لا تزال علاقة تركيا بالغرب والمنظمات الغربية على غرار حلف الناتو والاتحاد الأوروبي حيوية لها على صعيد مصالحها الوطنية وعلى صعيد سياستها الخارجية المتوازنة.إردوغان ينظر"إلى تعميق العلاقات مع الشرق كوسيلة لتعزيز الاستقلالية في السياسة الخارجية عن الغرب وليس للانفصال عنه. لا تزال التجارة مع أوروبا تشكل الثقل في التفاعلات الاقتصادية لتركيا مع العالم. كما أن الوصول إلى التكنولوجيا الغربية المتطورة لا يزال بحاجة لأنقرة في مختلف المجالات.تركيا ما بين الشرق والغرب عمل الرئيس التركي على دبلوماسية مسك العصا من المنتصف في علاقاته بين الشرق والغرب، وإن كانت هذه العلاقات تميل أحيانا إلى جهة الغرب، إلّا أن إردوغان حرص على علاقات متينة مع روسيا والصين، وذلك بهدف تعزيز مكانة بلاده كقوة إقليمية مؤثرة، وكذلك لتجنب الاعتماد المفرط على التحالفات التقليدية مثل الناتو. هذه التحولات عكست التغير في الأولويات الإستراتيجية لتركيا، بالإضافة إلى استجابتها للتطورات الإقليمية والدولية، بما يحقق مصالحها بالدرجة الأولى. ويرى علوش أن "أحد التحديات التي تواجه تركيا تتمثل في صعوبة الموازنة بين الشرق والغرب، خصوصا في ظل المنافسة الجيوسياسية العالمية الجديدة. مع ذلك، توجد هذه المنافسة فرصا للقوى العالمية المتوسطة كتركيا لتعزيز استقلاليتها في السياسة الخارجية وتنويع شراكاتها الخارجية. سيصبح التوازن أكثر صعوبة فيما لو فاز الديمقراطيون بالانتخابات الرئاسية المقبلة". فيما يؤكد حافظ أوغلو أنه "ربما تركيا هي الدولة الوحيدة التي استطاعت لمدة طويلة أن تكون في مثل هذه التوازنات ما بين الشرق والغرب، ومن يستطيع أن يصمد كل هذه المدة يستطيع ربما لاحقا أن يستمر". مشيرا إلى أن "هذا الأمر يعتمد بشكل أساسي على من سيكون رئيس تركيا القادم لولايتين أو 3 ولايات جديدة، لأنها سوف تكون حقبة جديدة إذا ما كان الرئيس الحالي إردوغان خارج المشهد السياسي. تركيا تحتاج إلى رئيس في المستقبل ذي خبرة طويلة، ويدرك تماما معنى هذه التوازنات، ويستطيع أن يجيد اللعب السياسي ما بين هذه العواصم". (المشهد)