الرجل الذي كان مقربًا من الرئيس الروسي ويُلقّب بطباخ فلاديمير بوتين، هو أوّل من تمرّد عليه حينما شعر لوهلة أنّه مُهدد بالملاحقة، ليقود بذلك ما أطلق عليه "مسيرة العدالة" ناشرًا جنود مجموعته للسيطرة على مدن جنوب البلاد وأرسل أرتالًا عسكريّة صوب العاصمة موسكو، مشكّلًا بذلك أكبر تهديدٍ للزعيم القوي الذي حكم البلاد لأكثر من 23 عامًا.لكن سرعان ما أنهى يفغيني بريغوجين تمرّده العسكري الذي لم يستمرّ سوى 24 ساعة، بعد التوصّل إلى صفقة مع الكرملين بوساطة من رئيس بيلاروس، والتي سيتمّ بموجبها إسقاط الدعوى القضائيّة المرفوعة عليه ومغادرته إلى بيلاروس، فضلًا عن عدم ملاحقة مقاتلي المجموعة قضائيًّا.نقطة الانهياريُعتبر بريغوجين (62 عامًا) من الأوليغارشية وهي المجموعة السياسيّة المقرّبة من بوتين وفق ما تشير إليه وسائل إعلام غربيّة، حيث بدأ حياته كبائع نقانق، قبل أن يؤسّس مطاعم ومتاجر عدّة حتى وصل الأمر إلى إبرام عقود توريد كبيرة لفعاليّات الكرملين والحكومة من خلال شركة "كونكورد" التي أنشأها في تسعينيّات القرن الماضي.والرجل الذي بدأ يتردّد اسمه على استحياء لارتباطه بمجموعة قتاليّة شبه عسكريّة في عام 2014 مع سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، أقرّ بقيادة "فاغنر" رسميًّا خلال العام الماضي عقب اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، حيث اعترف بمشاركة المجموعة في الحرب داخل أوكرانيا وانتشار عناصر منها في إفريقيا وأميركا اللاتينية.كبيرة الباحثين في معهد "نيولاينز" للدّراسات الاستراتيجيّة بواشنطن كارولين روز تقول خلال حديثها مع منصّة "المشهد" إنّ "التوتّرات بين بوتين ورئيس فاغنر وصلت مؤخرًا إلى نقطة الانهيار وبلغت ذروتها في التمرّد الذي انتهى بصفقة".وجعلت الشهرة التي حظي بها بريغوجين خلال الأشهر الماضية بعد اعترافه بقيادة فاغنر، منه شخصيّةً وطنيّة، حيث اعتاد على توجيه الانتقادات العلنيّة إلى القيادة العسكريّة ووزير الدفاع الروسيّ سيرغي شويغو بزعم عدم توفير التمويل والإمدادات والذخيرة الكافية لقواته، متّهمًا إيّاهم بـ"خيانة" المجهود الحربي.وطفت الخلافات بين بوتين وبريغوجين على السطح بشكل واضح خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعدما دعم الرئيس الروسي مسعى لإخضاع قوات "فاغنر" غير النظاميّة لسلطة وزارة الدفاع، إذ أظهر ذلك أنّه يقف إلى جانب الجيش في نزاع طويل مع قائد المجموعة شبه العسكرية التي يُقدّر قوامها بأكثر من 25,000 مجند.وقال الرئيس الروسي في تصريحات منتصف هذا الشهر، إنّه دعم مبادرة وزير الدفاع سيرغي شويغو، لوضع الجماعات غير النظاميّة تحت السيطرة المركزية. إلا أنّ رئيس فاغنر رفض الانصياع لمرسوم وزارة الدفاع، وقال إنّ شويغو غير قادر على "إدارة الوحدات العسكريّة بشكلٍ صحيح، وإنّ فاغنر ستردّ على بوتين مباشرة".وعلى ما يبدو أنّ ردّ "فاغنر" على الرئيس الروسي جاء في حملة التمرّد التي بدأت في الساعات المبكّرة من صباح السبت والتي وصفها بوتين في خطاب بدا عليه الغضب بـ"خيانة داخلية".وترى كارولين روز أنّ "ما حدث من تمرّدٍ كشف نقاط ضعفٍ رئيسيّة لبوتين"، قائلة: "تمرّد فاغنر وضع الرئيس الروسي أمام خيارين، إمّا تقديم تنازلاتٍ رئيسية لتهدئة هذه المعارضة وهو ما حدث، أو اتخاذ إجراءاتٍ صارمة ضدّ بريغوجين ومجموعته".مستقبل بريغوجينلم يُكشف حتى اللحظة عن التفاصيل الكاملة للصفقة التي توافق عليها بوتين وطباخه السابق وأيضًا حول ما إذا كان سيستمر في قيادة المجموعة بعد انتقاله إلى بيلاروس، غير أنّ أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة باريس رامي الخليفة العلي يستبعد خلال حديثه مع منصّة "المشهد" استمرار بريغوجين على رأس المجموعة شبه العسكريّة.ويقول العلي: "مستقبل السيد بريغوجين السياسي والعسكري قد انتهى بالفعل. لا أعتقد أنّ هناك إمكانيّة للإبقاء عليه مستقبلًا في قيادة مجموعة فاغنر، كما سيكون بعيدًا عن المشهد الروسيّ على الأقلّ خلال المرحلة المقبلة".في غضون ذلك، يرى المحلّل السياسيّ والدبلوماسيّ الأوكراني السابق فولوديمير شوماكوف أنّ "مستقبل بريغوجين أصبح قاتمًا لأنّ هذا التمرّد مثل صفعة على وجه بوتين. وبوتين شخصيّة انتقاميّة ولم يسامح هذا العار والإهانة".وتابع بالقول: "بوتين قد قال في تصريحات قديمة إنّه لا يسامح الخيانة. واعتقد أنّ بريغوجين سوف يكون مقتولًا في بيلاروس أو في أيّ دولة أخرى بأقرب وقت ممكن".وفي محاولة منصّة "المشهد" للحصول على تعليق من محلّلين وخبراء روس، رفض بعضهم الحديث عمّا حدث من تمرّد مجموعة فاغنر، فيما قال آخرون إنّهم غير معنيّين بالتحليل أو إبداء آرائهم في هذا الأمر.ويحيط الغموض بقادة "فاغنر"، فمنذ أن اعترف بريغوجين بقيادة المجموعة، لم يتمّ الكشف عن أيّ تسلسل تنظيمي أو قياداتٍ عليا سوى ما كشفت عنه الولايات المتحدة من خلال فرض عقوبات على إيفان ألكساندروفيتش ماسلوف وهو رئيس مجموعة فاغنر في دولة مالي.لهذا يعتبر رامي العلي أنّ هناك عدم وضوح بشأن من يخلف بريغوجين في قيادة المجموعة، إذ يقول: "الحقيقة لا يوجد الكثير من المعلومات حول التسلسل التنظيمي في المجموعة. وعلى الصعيد الإعلاميّ السيد بريغوجين ما قبل شهر سبتمبر من عام 2022، لم يكن اعترافًا رسميّا بقيادته لفاغنر، أمّا الآن وهو ينزاح عن المشهد السياسي والعسكري، يمكن أن يكون هناك شخصيّة أخرى يختارها بوتين لقيادة المجموعة، وربّما بشكلٍ غيرِ معلن".ويضيف: "الرئيس بوتين سيختار شخصًا سيكون بعيدًا عن الأضواء لأنّ تجربة بريغوجين ربّما ساهمت إلى حدّ ما في تغيير النظرة إلى هذه المجموعة برمّتها. لذلك ربّما في اعتقادي أن يكون هناك شخصيّة أخرى، ولكن لم يتمّ الإعلان عنها على الأقلّ في الأمد المنظور".فيما يقول الدبلوماسي الأوكراني السابق فولوديمير شوماكوف إنّ "فاغنر جزءٌ من جهاز الأمن الروسي، يعني هناك المزيد من القيادات. وبريغوجين كان في منصب الإدارة، وبالتالي جهاز الأمن سيعيّن من يخلفه"."فاغنر" إلى أين؟يستبعد المحلّلون والمراقبون خلال حديثهم مع منصّة "المشهد" أن تتّجه روسيا إلى تفكيك المجموعة العسكريّة بشكلٍ كامل، نظرًا إلى دورها البارز في الكثير من الميادين العسكرية التي كلّفت بها منذ تأسيسها وآخرها كان في السيطرة على مدينة باخموت الأوكرانيّة بعد معارك دامية استمرّت قرابة الـ8 أشهر، إذ تقول كبيرة الباحثين في معهد "نيولاينز" للدراسات الاستراتيجية: "هذه الخطوة يمكن تقليل البصمة الدفاعيّة لروسيا إلى حدٍّ كبير، لكن سيسعى الكرملين إلى (تنظيف المنزل) والقضاء على قوى المعارضة والمنافسة المحتملة".ويتّفق مع هذا أستاذ الفلسفة السياسيّة بجامعة باريس والذي يعتبر أنّ التوصيفات التي قالها الرئيس بوتين أثناء كلمته بشأن عمليّة التمرّد تجعل من المستبعد أن تبقى مجموعة فاغنر وفقًا لشكلها وأسلوب عملها الحالي.ويضيف رامي العلي: "هذه مجموعةٌ شبه رسميّة وهي على تفاهم وتحالف مع الحكومة وتمثّل ذراع روسيا في مناطق متعدّدة، بما في ذلك إفريقيا وسوريا ومناطق أخرى من العالم، لذلك لا أعتقد أنّ المجموعة سينتهي دورها. لكن سوف يتمّ هيكلتها ليقاتل جنودها تحت مظلّةٍ أخرى، ولن تعود بشكلها الذي عرفناه خلال الأشهر الماضية".ويؤكّد العلي أنّ فاغنر لديها خبرةٌ طويلة في المعارك داخل المدن أو ما يسمّى بحروب العصابات، لذلك ستكون مفيدةً لموسكو "إلّا أنّه يجب أن تعمل تحت قيادة وزارة الدفاع، وهذا سوف يكون حلًّا للإبقاء عليها، خصوصًا أنّ القوّات الروسيّة تعاني من صعوبةٍ بالغة في أوكرانيا وبحاجة إليهم، لكن ليس بشكلها الحاليّ".فيما يعتبر فولوديمير شوماكوف أنّ روسيا لا تحتاج إلى فاغنر التي دمّرت القوات الأوكرانيّة 70% من قوّتها، واستخدمتهم موسكو كـ"وقود مدافع"، قائلًا: "من المتعارف عليه أنّ روسيا أسّست مجموعاتٍ أخرى مثل فاغنر، وهذه المجموعة انتهى دورها في الحرب بأوكرانيا، لذلك طالبت وزارة الدفاع من الجنود توقيع عقود للانضمام تحت مظلّتها، ممّا يؤكّد الرغبة في تفكيكها".وأشار الدبلوماسي الأوكراني السابق إلى أنّ تمرّد بريغوجين كان محاولةً تهدف إلى منع التفكيك أو الحصول على أكبر تنازلاتٍ ممكنة لأعضاء المجموعة.ولم يُعرف بعد ما إذا كانت وزارة الدفاع الروسيّة ستواصل خططها المعلنة بشأن وضع الجماعات العسكريّة غير النظاميّة تحت السيطرة المركزيّة، خصوصًا عقب التمرّد المؤقت، لكنّ المتحدث باسم الرئاسة الروسيّة "الكرملين" قال صباح الأحد إنّ جزءًا من قوّات مجموعة "فاغنر" العسكريّة، الذين قرّروا عدم المشاركة في التمرّد المسلّح، سيتمكّنون من توقيع عقودٍ مع وزارة الدفاع الروسيّة، بحسب ما نقلت وكالة أنباء "تاس" الروسيّة.(المشهد)