تتجه تونس لإصدار قانون جديد للجمعيات، في خطوة من شأنها أن تجفّف منابع "الإخوان" وتُغلق آخر معاقلهم، لكنها في المقابل تثير مخاوف المجتمع الحقوقي.والاثنين أعلنت رئاسة الحكومة إحداث لجنة تُكلّف بإعداد مشروع قانون جديد للجمعيات، وذلك بعد أسابيع طويلة من النقاشات حول تمويلات منظمات المجتمع المدنيّ في البلد. وذكرت رئاسة الحكومة في بيان، أنه "بعد التداول حول وضعية الجمعيات وطرق تمويلها، تقرر إحداث لجنة غير قطاعية لتشتغل على مشروع قانون جديد، مع إمكانية النظر في تنقيح قوانين أخرى متعلقة بتمويل الجمعيات وتبييض الأموال". ويأتي ذلك فيما كان رئيس مجلس النواب إبراهيم بودربالة قد أعلن وجود مبادرة تشريعية لتعديل القانون الحالي، الذي ينظم نشاط الجمعيات في تونس. ويُنتظر أن يمنع القانون الجديد تلقّي المساعدات والتبرعات والهبات من دول أجنبية لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية، كما أنّ هذه الجمعيات مدعوّة للحصول على ترخيص من لجنة التحاليل المالية قبل تلقّي أيّ تمويل أجنبي. وينظم الجمعيات في تونس المرسوم الرئاسيّ عدد 88 والذي صدر بعد حوادث سنة 2011، ويتيح لها تلقّي تمويلات أجنبية، الإجراء الذي طالبت أطراف كثيرة مرارًا بتشديد الرقابة عليه. وشهدت تونس طفرة في تأسيس الجمعيات منذ 2011، إذ زاد عددها من 9 آلاف جمعية إلى أكثر من 23 ألف جمعية بحسب إحصائيات نشرها مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات، أغلبها ذات توجهات يمينية، كما توجد قرابة 15 ألف جمعية يصعب التثبّت في مصادر تمويلها. تمويلات مشبوهة وطالما كان هذا المرسوم محلّ جدال واسع في البلد، إذ طالته انتقادات كثيرة وُجّهت خصوصًا لمصادر التمويل الأجنبية والأجندات التي تخدمها هذه الجمعيات وتستّرها بالعمل الخيريّ والحقوقيّ لخدمة أجندات سياسية لمنظومة الحكم السابقة. وكان الرئيس سعيّد في مقدمة المنتقدين للقانون الحالي، والأسبوع الماضي قال في إشارة إلى الكثير من هذه الجمعيات، إنها "استباحت الدولة وكانت امتدادًا للأحزاب وحتّى للمخابرات الأجنبية، ولا بدّ من وضع حدّ لذلك". وكشف أنّ "منظمة واحدة تلقّت تمويلات من الخارج بين 2016 و2021 تُقدر بنحو 2.4 مليون دولار". وتوجد في تونس أكثر من 23 ألف جمعية، وينشط الجزء الأهم منها في المجال الخيريّ والاجتماعيّ تليها الجمعيات التنموية. وكانت مديرة ديوان الحكومة التونسية سامية قدور، أعلنت الشهر الفائت في جلسة أمام البرلمان، ضبط 272 جمعية مشبوهة واتخاذ إجراءات ضدّها، بعد تصنيف تونس بالقائمة السوداء من قبل مجموعة العمل المالي، وبالقائمة الرمادية من قبل منظمة الشفافية الدولية. وأضافت أنه تمّ طلب الإذن بحلّ 176 جمعية، وصدرت أحكام قضائية بحلّ 69 منها، وتمّ رفض طلب حلّ 57 جمعية. وقالت "إنّ ارتفاع التمويل الأجنبيّ للجمعيات، يتأتى من تضاعف عددها خلال العشرية الأخيرة، وهو أمر ناتج عن غياب نص قانونيّ يضع سقفًا للتدفّقات المالية الخارجية". وسبق أن كشف تقرير لمحكمة المحاسبات في تونس(حكومية) أنّ حجم التمويلات الأجنبية التي استفادت منها الجمعيات، وفق المعطيات المتوافرة لديها، بلغ 68 مليون دينار (25.15 مليون دولار) سنة 2017 و78 مليون دينار (28.85 مليون دولار) سنة 2018 في وقت لم تُعلم فيه 566 جمعية الحكومة بتلقيها تمويلات أجنبية المصدر. "الإخوان" في قفص الاتهام ويُتّهم "الإخوان" باستغلال الجمعيات الخيرية لخدمة أجنداتهم الخاصة، ويقول معارضوهم إنّ التمويل الأجنبيّ للجمعيات والأحزاب، لعب دورًا مهمًا طيلة عشرية حكم الإسلاميّين في ضرب الحياة السياسية ورهنها للخارج. وكثيرًا ما كان الإنفاق الضخم لحركة النهضة طيلة فترة حكمها، خصوصا خلال الحملات الانتخابية أو الأنشطة العادية، محل تساؤلات وشكوك كثيرة. ويقول أخصام "النهضة" إنّ "إخوان تونس" حصلوا على تمويلات خارجية ضخمة عبر نسيج جمعيّاتي كوّنوه بعد عام 2011، مستغلين القانون الحاليّ الذي لا يمنع التمويل الأجنبي. ويرى المحلل السياسيّ خليل الرقيق، أنّ هذه الجمعيات كانت ذراعًا "إخوانيا" لنشر أدبياتهم واختراق المشهد السياسيّ في البلاد، مضيفًا أنّ عددًا من قيادات "الإخوان" يقبعون اليوم بالسجن بسبب علاقتهم بهذه الجمعيات المتهمة بالتورط في الإرهاب وتبييض الأموال، على غرار جمعية "نماء الخيرية". ويلاحق القضاء التونسيّ عددًا من قيادات "حزب النهضة"، من بينهم رئيس الحزب راشد الغنوشي بسبب الاشتباه في علاقتهم بجمعية "نماء الخيرية"، التي وُجّهت لها تهم تشمل تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ويوضح الرقيق في تصريحه لمنصّة "المشهد" أنّ "هذه الجمعيات نشطت تحت يافطة العمل الخيري، من أجل العمل على اختراق النسيج الاجتماعيّ والتأثير على الانتخابات، مستغلة حاجة الكثير من التونسيّين للمساعدة،" في حين أنها كانت أداة من أدوات "أخوَنة" المجتمع، وغطاءً لكل التحويلات المالية المشبوهة". ويتابع: "أنّ عددًا من القضايا الإرهابية الكبرى التي عاشتها تونس خلال سنوات حكم "النهضة"، كان يقف وراءها جمعيات خيرية "إخوانية". ويعتبر أنّ مراجعة قانون الجمعيات سيجفف بشكل كلي منابع تمويل "الإخوان" في تونس، ويسدّ كل الثغرات القانونية التي قد يتسرب منها المال الأجنبيّ المشبوه. مخاوف من التضييق على الحريات على الضفة الأخرى، يثير مشروع القانون الجديد مخاوف عدد من الناشطين الحقوقيّين الذين يخشون أن يكون خطوة للتضييق على الحريات في البلد. ونفى سعيّد ذلك مرارًا مؤكدا "عدم وجود نية للتضيق على العمل الحقوقي". ويقول الرقيق إنّ الجمعيات التي تعمل بشكل قانوني، لن تكون متضررة من هذا القانون الذي يُفترض أن يرتّب فوضى المشهد الجمعيّاتي الخيريّ والحقوقيّ في البلاد. وفي أكتوبر الفائت، قالت منظمة العفو الدولية، إنه "يجب على المشرّعين التونسيّين الامتناع عن المصادقة على مشروع قانون يحتوي على تقييدات شديدة، من شأنه، في حال إقراره، أن يهدد استمرارية عمل منظمات المجتمع المدنيّ المستقلة في البلاد"، وذلك في إشارة إلى المبادرة التشريعية التي تقدم بها نواب تونسيون إلى البرلمان. ويوم الأربعاء أصدر عدد من المنظمات والجمعيات الحقوقية بيانًا عبّروا فيه عن رفضهم لمقترح القانون الجديد المحال على مجلس النواب، وطالبوه بسحبه مع "التمسك بالقانون الحالي". وأكدت هذه الجمعيات أنّ الإطار القانونيّ الحاليّ "كفيل بضمان شفافية نشاطها وتسييرها وتمويلها". وتقول الناشطة الحقوقية عائدة بن شعبان، إنّ المرسوم عدد 88 يحمل آليات قانونية كافية لمراقبة مصادر تمويل الجمعيات، معتبرة أنّ المشكلة تتمثّل في تطبيقها. وتضيف، "نخشى أن يكون القانون الجديد حقًا أريد به باطل". وتعتبر في تصريحها لمنصّة "المشهد" أنّ التضييق على الجمعيات والمنظمات الحقوقية في البلاد، يمسّ من مناخ الديمقراطية، لأنّ وجود هذه الأجسام وفق تعبيرها "مهمّ لتحقيق التوازن في المشهد العام في البلاد". وتتابع مؤكدة أنّ وجود خروقات ارتُكبت خلال فترة حكم "الإخوان"، لا يعني تعميم الفساد على جميع الجمعيات الخيرية والحقوقية.(المشهد - تونس )