أصدرت محكمة العدل الدولية أحكامها في دعوى ارتكاب "الإبادة الجماعية"، التي رفعتها جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل بسبب حربها على قطاع غزة. وقالت المحكمة، في سلسلة من القرارات، إنه يتعين على إسرائيل اتخاذ خطوات لمنع أعمال الإبادة الجماعية في غزة، من دون أن تصل إلى حد الأمر بوقف إطلاق النار. وفي حين أقرّت المحكمة شرعية قيام جنوب إفريقيا برفع دعوى "الإبادة الجماعية"، فإن البت فيها قد يستغرق سنوات حسب رأي المختصّين. وفي جلسة استماع استمرت يومين هذا الشهر، طلبت جنوب إفريقيا من المحكمة إصدار إجراءات مؤقتة تلزم إسرائيل بإنهاء حملتها العسكرية في غزة على الفور، والتي بدأت بعد هجمات 7 أكتوبر التي شنتها "حماس" مباشرة.قرار محكمة العدل الدولية اليوم تاريخيوتعدّ أحكام المحكمة نهائية ولا يمكن الطعن فيها، لكنها تفتقر إلى الصلاحيات التنفيذية، لكن عدم الامتثال الإسرائيلي لها يمكن أن يؤدي إلى فرض عقوبات على تل أبيب، فيما يعتبر الحكم الصادر بمثابة عامل قوي لزيادة الضغوط على حلفاء إسرائيل وداعميها، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي وصفت القضية سابقًا بأنها "عديمة الجدوى" وتواصل عرقلة جهود استصدار قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.وفي هذا الإطار، يقول أستاذ الدراسات الإسرائيلية في جامعة الإسكندرية الدكتور أحمد فؤاد أنور في حديثه مع منصّة "المشهد" إن "القرار تاريخي في دباجته وصياغته أقوى من مضمونه وقد صدر بأغلبية ساحقة، وكان لافتاً انحياز القاضية الأوغندية فقط للقاضي الإسرائيلي وللرواية الإسرائيلية، ومستغربًا أن القاضي الإسرائيلي لم يعارض بندين في حين اعترضت القاضية الأوغندية وحيدة عليهما".مضيفاً "أرى أن القرار وصمة لا يمكن تجاوزها على صورة إسرائيل وسيكون لها تبعات عسكرية على الأرض بالضرورة"وجد الإسرائيليون في غياب "وقف إطلاق النار" في صياغة القرار نصراً جزئياً وعاملاً للتخفيف من تداعيات صدوره، لكن عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية د. أحمد فؤاد أنور يرى بأن "استبدال وقف إطلاق النار بصياغة الأعمال التي قد تؤدي إلى كذا وكذا جاء في مواءمة سياسية من أجل ضمان الأغلبية الساحقة في صدوره".واتّهمت جنوب إفريقيا عبر فريق محاميها، تل أبيب، بارتكاب أعمال الإبادة الجماعية التي شملت القتل الجماعي للفلسطينيين، والتسبب في أضرار عقلية وجسدية خطيرة للفلسطينيين، وفرض ظروف معيشية عمداً تهدف إلى إحداث التدمير المادي لغزة كلّياً أو جزئياً، والتعمّد في القيام بهجمات عسكرية على نظام الرعاية الصحية في غزة. بالإضافة إلى وقف فوري لإطلاق النار، طلبت جنوب إفريقيا من المحكمة أن تأمر باتخاذ تدابير تحظر حرمان الغزيين من الحصول على الغذاء والماء الكافي والمساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية.دعوى الإبادة الجماعية قد تستمر لسنواتفي المقابل، استمرّت إسرائيل في رفض الدعوات لوقف إطلاق النار، مصرّة على مواصلة هجومها حتى تحقيق هدفها المتمثّل في إنهاء "حماس"، وتدمير أنفاقها والسيطرة الأمنية على غزة كسبيل وحيد لضمان سلامة مواطنيها، في حرب أسفرت عن سقوط ما يقرب من 26,000 شخص - معظمهم من النساء والأطفال - بالإضافة إلى 7,000 آخرين يعتقد بكون جثثهم مدفونة تحت الأنقاض، ناهيك عن تهجير حوالي 85% من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة. ويشرح الخبير في القانون الدولي الإنساني د. نعيم أقبيق في حديثه إلى منصّة "المشهد" أن "قرار محكمة العدل الدولية اليوم يخصّ التدابير الموقّتة العاجلة في دعوى الإبادة الجماعية إلى حين البت في القضية، والذي قد يستغرق لـ4 أو 5 سنوات ويستدعي تشكيل لجان للتحقيق والمتابعة". حذّرت الأمم المتحدة من خطر المجاعة في غزة، كما حذّر نائب الأمين العام للأمم المتحدة من التدمير الممنهج للمؤسسات المدنية وكل وسائل الحياة، وتحويل غزة إلى مكان غير صالح للسكن وإجبار الناس على التهجير. ويضيف أقبيق أن "المحكمة استندت على وثائق المنظمات الدولية والمعلومات التي قدّمتها جنوب إفريقيا في مذكّرة معدّة بعناية من 70 صفحة ووثائق مكوّنة من 700 صفحة في استصدار قرارها الذي يعتبر نهائياً لأن العدل الدولية محكمة من مرحلة واحدة".خيار جنوب إفريقيا الصائبويتّفق الكتاب والأكاديميون على أن قضيّة "الإبادة الجماعية" التي رفعتها جنوب إفريقيا أظهرت انقساماً عالمياً ما بين حلفاء إسرائيل الغربيين، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة ضغوط دولية وداخلية تطالبهم بالكفّ عن مساندة تل أبيب، وبين جنوب الكرة الأرضية في إفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرها من الدول التي اتّخذت مواقف صارمة ضدّ إسرائيل. وفي حين أبدت ألمانيا رغبتها في الدخول إلى جانب إسرائيل كطرف داعم للمدّعى عليه، رفضت جنوب إفريقيا دخول أي دولة إلى جانبها، في خطوة وصفها الخبير في القانون الدولي الإنساني أقبيق بالتكتيكية. وشرح قائلا إنّه "بموجب النظام الداخلي للمحكمة، انضمام أي دولة للجهة المدّعية يمنح إسرائيل مهلة 15 يوماً لدراسة الخطوة، ما يعني عرقلة جهود جنوب إفريقيا في استصدار قرار مستعجل، لذا فهي رفضت مبادرات مساندتها من أجل تسريع عملية استصدار القرار". وينص القانون على أنّه بمجرد وجود "خطر جدي" بالإبادة الجماعية، يتعيّن على الدول أن تفعل "كل ما في وسعها لوقف تمكين تلك الإبادة واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لمنع وقوعها". ويشير أقبيق إلى أنه "خلافاً للجنائية الدولية، فإن محكمة العدل الدولية تحاكم الدول فقط، وليس الأفراد، وتصدر قرارات بتعويضات مالية كبيرة جداً، لكنها تشترط في الجهة المدّعية أن تكون موقّعة على اتفاقية العدل الدولية ومعترفة بدولة إسرائيل بالنسبة للقضية الحالية، لذلك كان رفع الدعوى من قبل جنوب إفريقيا" مكتمل الأركان فيما يخص اتّهامات الإبادة الجماعية.وتنتقد جنوب إفريقيا باستمرار النظام العالمي غير العادل الذي تتّهمه بأنه يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغنية من الذين يروجون لمعايير دولية يطبقونها على الأعداء فقط دون الأصدقاء أو على أنفسهم، وقد قامت للترويج لسنوات "للبريكس" كبديل عن النظام الاقتصادي القائم حالياً.ويرى أنور، أن "إسرائيل تزعم بأن مشكلتها مع "حماس" والإرهابيين والفلسطينيين الذين يرغبون في القضاء على دولة إسرائيل والعرب والمسلمين، فيما أن جنوب إفريقيا لا تندرج تحت أياً من هذه التوصيفات، بل على العكس هي تعرّضت للإبادة والعنصرية على مدى عقود وكافحت هذه الممارسات إلى حين نجاحها في إسقاط نظام الفصل العنصري". وأضاف أن "هذا يشير إلى المسار الذي ستصل إليه إسرائيل إذا ما تمسّكت برغبتها في الإبادة وأوهام التوسّع والتمسّك بممارسات قادتها العنصريين الذين مكانهم الحقيقي يحب أن يكون في السجن وليس وزراء وأعضاء كنيست". وتعرف اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، التي صدرت بعد القتل الجماعي لليهود في المحرقة النازية، بأنها "الأفعال المرتكبة بقصد تدمير مجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كلّياً أو جزئياً". ومن أجل سن تدابير مؤقتة، ليس من الضروري إثبات السلوك الذي يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، بل يكفي إثبات وقوع بعض الأفعال التي تندرج ضمن الاتفاقية. ويشير عقبيق إلى أن "إسرائيل كانت سبّاقة في التوقيع على الاتّفاقية التي منحتها مليارات الدولارات من التعويضات جراء الأفعال المرتكبة من قبل النازيين ضد اليهود، لكنها اليوم كمن انزلق بقشرة الموزة التي أكلها، حيث إن كل بنود الاتّفاقية لناحية الأعمال الموصوفة بالإبادة الجماعية تنطبق على ما تشهده غزّة اليوم".مشكلة إسرائيل باتت مع الجميع ويشرح أقبيق أن "إسرائيل باتت ملزمة بتقديم عرض للإجراءات التي اتّخذتها تنفيذاً للقرار خلال شهر، وإلا فإنه من حق المحكمة التوجّه إلى مجلس الامن وفق المادة 92 من ميثاق الأمم المتّحدة التي تعتبرها المحكمة بمثابة نظامها الداخلي". كما يركّز أقبيق على "مبدأ الإغلاق" الذي أوجدته المحكمة، والذي ينص في حال الدعوى المنظور فيها حالياً على تثبيت الأقوال الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين "عن إبادة غزة أو تدميرها أو تهجيرها وغيرها" والتي لا يمكنهم التنصّل منها أو الادعاء بأنها صدرت في لحظة غضب وما إلى ذلك من مبررات. أما بالنسبة لتداعيات القرار على السياسة الخارجية الإسرائيلية، فيرى فؤاد أن التداعيات "تتجاوز القضية الفلسطينية بالنسبة لإسرائيل التي اضطرت على سحب سفرائها من العديد من الدول حتى لا يتم طردهم واشتبكت مع تركيا ومصر والأردن والأمين العام للأمم المتحدة وباتت تكيل الاتّهامات لمحكمة العدل الدولية بأنها ذراع إيران و"حماس" وبالتالي أصبحت مشكلة إسرائيل اليوم مع الجميع، وقد ظهر ذلك في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة حينما أيدت 153 دولة حقوق الفلسطينيين". وبرأي فؤاد "هذه الخسائر لا يمكن لإسرائيل تجاوزها وسيكون لها أبعاد خطيرة على المجتمع الإسرائيلي الذي نشأ بشكل غير طبيعي في البداية ويمارس حالياً سياسات التهجير ضد قطاع غزة الذي يمثل 1% تقريباً من فلسطين التاريخية تحت مسميّات مختلفة من ترحيل طوعي ونقل مؤقت للسكان لأسباب إنسانية". (المشهد)