بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية التي مزقت سوريا، تواجه البلاد تحديًا كبيرًا يتمثل في إعادة بناء جيش وطني موحد وقادر على الحفاظ على الأمن والاستقرار. ومع انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، برزت الحاجة الملحة إلى دمج الفصائل المسلحة المتنوعة في جيش واحد، لكنّ هذه العملية تواجه عقبات كبيرة تتعلق بالولاءات الطائفية والسياسية، والتدخلات الخارجية، والانقسامات الأيديولوجية.تأسيس جيش سوري موحد يعتبر التشرذم العسكري نتيجة لطول سنوات الحرب وتعدد الجبهات والقوى الفاعلة والمؤثّرة ميدانيًا أحد أكبر التحديات التي تواجه تأسيس جيش سوري موحد. بعد أكثر من عقد من الصراع المسلّح، تحولت سوريا إلى ساحة معارك تحالفت فيها الفصائل المسلّحة وتقاتلت فيما بينها، بدءًا من الجيش السوري الحر، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهيئة تحرير الشام وداعش والميليشيات المدعومة من إيران وروسيا. الاختلاف في الأهداف والإيديولوجيات والداعمين بين الفصائل الحاكمة على الأرض، يجعل من مهمة دمجها في جيش واحد عمليّة طويلة وشاقة ومحفوفة بمخاطر الفشل. يقول ضابط مدرّعات سابق في الجيش السوري، "حتى الآن تخاطب الحكومة الانتقالية لكل طرف من الأطراف العسكرية باللغة المحببة من قبلها. هذا التكتيك لا يزال فاعلًا للحفاظ على التوازن الميداني الهش". ويضيف اللواء المتابع لمسار دمج الفصائل المسلّحة في الجيش "عامل الوقت هو الذي سيكشف نجاح هذا المسار من فشله، حاليًا هناك إعلان وتصريحات متتالية عن عمليات اندماج، لكن عمليًا الكل لا يزال محافظًا على سلاحه وهيكليّـه". بالنظر إلى التوزّع العسكري في سوريا اليوم، تبدو خريطة السيطرة مشابهة لعهد نظام الأسد إلى حد كبير مع إضافة إدلب، التي كانت معقل "هيئة تحرير الشام" سابقًا. بالمقابل، رغم إعلان فصائل "الجيش الوطني" المدعومة من تركيا اندماجها في الجيش الجديد، إلا أنّها لا تزال تحافظ على هيكليّتها العسكرية المستقلة ووجودها في مناطق الشمال على الشريط الحدودي مع تركيا. وكما في عهد الأسد، فإن دمشق تسيطر نظريًا على كل من درعا والسويداء، لكنّ الواقع العملي يشير إلى سيطرة قوات العودة ورجال الكرامة على المخافظتين المذكورتين. وتستمر قوات سوريا الديمقراطية في السيطرة على مناطق شمال شرق سوريا، والتابعة "للإدارة الذاتية"، فيما تواصل "مغاوير الثورة" في الوجود في قاعدة التنف. ترفض كل من قوات سوريا الديمقراطية، التي يسيطر عليها الأكراد، وقوات العودة ورجال الكرامة الاندماج الكامل في الجيش ولكل حساباته ومطالبه. تطالب "قسد" ضمانات بمنحها حكمًا ذاتيًا موسعاً في شمال شرق سوريا. في المقابل، ترفض الحكومة الانتقالية، التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام، أيّ شكل من أشكال الحكم الذاتي. وبالمثل، تنتظر "قوّات العودة" والتي تتألف من فصائل محلية في درعا ذات توجهات علمانية توضيح شكل وتوجّهات "الدولة الجديدة" ودورها فيها، فيما علمت "المشهد" من مصادر مواكبة للمفاوضات مع وزارة الدفاع الجديدة، قرب الاتّفاق على صيغة شبيهة "بالجيش الوطني"، يمكّن من احتفاظ "اللواء الثامن" (قوات العودة) على عناصرها وأسلحتها، تحت مظلّة وزارة الدفاع السورية، وهو ما كان ساريًا خلال فترة الأسد. وفي يناير 2025، منعت قوات درزية دخول الشرطة العسكرية التابعة لهيئة تحرير الشام إلى المدينة، في إشارة إلى حالة عدم الثقة، ولا تزال فصائل درعا والسويداء تؤدي دور قوات الأمن بحكم الأمر الواقع، رافضة حل نفسها من دون وضوح حول دور الجيش الوطني.عقبات هيكلية ولوجستية في الوقت ذاته، تبدو عملية بناء الجيش الجديد بمفهومه التقليدي، والمتمثّل ببناء قوات عسكرية مقاتلة بهيكلية حربية صعبة التحقيق على المدى القريب والمتوسّط. فتدمير البنية التحتية العسكرية السورية خلال الحرب والغارات الجوية الإسرائيلية التي أجهزت على جزء كبير من الترسانة العسكرية السورية، بما في ذلك الدبابات والمركبات المدرعة وأنظمة الدفاع الجوي، تعدّ من أهم المعوّقات اللوجستية. وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، تحتاج سوريا إلى عشرات المليارات من الدولارات لاستعادة قدراتها العسكرية، في ظل الاقتصاد المنهك العاجز عن توفير هذه الأموال. ووفق المصدر العسكري فإنّ "أولوية السلطة الانتقالية اليوم تبدو بناء جيش أقرب إلى قوات مكافحة الشغب مع إمكانية زجّه في اشتباكات داخلية محتمل نشوبها بسبب حالة الفوضى الأمنية ووجود فصائل عسكرية وخلايا مسلّحة في معظم أرجاء البلاد". ويضيف اللواء الذي تم استبعاده بسبب خدمته في الجيش خلال عهد الأسد، مفضّلًا عدم الكشف عن اسمه، "الحكومة الانتقالية ترسل الرسالة تلو الأخرى لتطمين دول الجوار وعلى رأسها إسرائيل، لذلك فهي لا ترى ضرورة لإنشاء قوّة عسكرية لمهمات خارج الحدود". وشهدت هجمات داعش ارتفاعًا بنسبة 73% مقارنة مع عام 2023 استهدفت بشكل مكثّف المنشآت النفطية السورية، وفق بيانات مركز كارتر.التدخلات الخارجية والتنافس الإقليمي وتلعب التدخلات الخارجية دورًا مهمًا في تعقيد عملية إعادة بناء الجيش السوري. فتركيا، التي تعتبر قوات سوريا الديمقراطية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، ترفض أيّ شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي وتدعم فصائل الجيش الوطني المعارضة للأكراد. وفي المقابل، تدعم الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية في إطار جهودها لمكافحة تنظيم داعش. بالمقابل، تُعرف قوّات العودة بقربها من موسكو، التي أمّنت الغطاء الشرعي لوجودها خلال فترة الأسد، كما أنها تلقّت دعمًا من الأردن والولايات المتّحدة في فترة ما قبل التسويات مع الأسد عام 2018 التي أبقت الجنوب مستقلًا ومسلحًا، وخارج السيطرة القعلية للسلطة المركزية.بالإضافة إلى ذلك، تعلن إسرائيل دعمها للقوات العسكرية في السويداء، وتشارك فرنسا في ضرورة استمرار دعم قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق البلاد. وعلى الصعيد الاجتماعي، تظل الانقسامات الطائفية والإثنية عقبة أمام بناء جيش وطني موحد. فبعد عقود من هيمنة العلويين على المفاصل الحساسة داخل القيادة العسكرية، تحتاج الحكومة الانتقالية إلى إلى إقناع السنّة والأقليات والأكراد، بأنّ الجيش الجديد سيمثل هوية "سورية" وليس تيارًا سنّيًا متشددًا، كما هو الايحاء الحالي بعد سلسلة التعيينات والترفيعات التي تم الإعلان عنها خلال الأسابيع الماضية. وأعلنت الحكومة الانتقالية عن تعيين 6 ضباط أجانب في مناصب قيادية (عقداء أو ألوية)، بينهم صينيون من الأويغور من القادة السابقين في الفصائل الجهادية، و أردني متخصص في حرب المدن، وتركي خبير في اللوجستيات. وبرر رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع هذه التعيينات كمكافأة لـ"قدامى الثوار" الذين حاربوا الأسد منذ 2011. ويعتقد اللواء المطرود أنّ الشرع يحاول "تعزيز الولاء بين المقاتلين الأجانب الذين رافقوه طوال سنوات الحرب، وذلك بعد تزعزع ثقة الجهاديين الأجانب به حينما قام بطرد 400 مقاتل أجنبي من إدلب خلال الفترة بين 2018-2024 خلال محاولة إعادة تقديم نفسه كزعيم سوري وطني.الانقسامات العسكريةرغم التحديات الكبيرة، فإنّ احتمالات تحقيق الاستقرار وتأسيس جيش وطني موحد لا تزال قائمة، وفق الضابط المتقاعد من حلف الناتو الجنرال سعاد ديلغين. ويرى ديلغين أنّ "الحكومة الانتقالية في سوريا بحاجة إلى تبنّي نهج تفاوضي مع الاستعانة بالوساطات الدولية، خصوصًا من قبل الأمم المتحدة والجامعة العربية، لتحقيق توازن بين مصالح القوى الإقليمية المتنافسة والحاجة المحلية لإعادة إنشاء الجيش السوري". مضيفًا "الحل الأفضل هو اعتماد نموذج دمج تدريجي للفصائل المسلحة مع تأجيل القضايا الخلافية لحلّها على أرض الواقع بعد تأسيس الثقة المتبادلة بين وزارة الدفاع في السلطة الانتقالية وهذه الفصائل". تبدو عملية تأسيس الجيش السوري الموحد معقّدة بسبب التحدّيات العسكرية المتداخلة مع السياسة والاقتصادي. فالتشرذم العسكري، والتدخلات الخارجية، والانقسامات الأيديولوجية، والأزمة الاقتصادية، كلها عوامل تعيق جهود التوحيد. في الوقت ذاته فإنّ تحقيق الاستقرار في سوريا يعتمد بشكل كبير على نجاح هذه الجهود، تفاديًا لسيناريوهات شبيهة بليبيا أو الصومال أو غيرها من الدول التي عانت طويلًا من الانقسامات السياسية والعسكرية الداخلية. (المشهد)