على الرغم من كونها مستعمرة بلجيكية سابقة، أقام كونغوليون تظاهرات مناهضة لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بلادهم في العاصمة كينشاسا، حاملين أعلام روسيا وصور فلاديمير بوتين، ما ينم عن تضاؤل النفوذ الباريسي في القارة السمراء، وسط تزايد الحضور العسكري لموسكو عبر أسلحتها السوفياتية وتوغل الشركات الصين.وبدأ ماكرون الأربعاء جولة إفريقية تشمل الغابون وأنغولا والكونغو الديمقراطية والكونغو برازافيل، حيث تُشكل هذه الجولة الزيارة الـ18 للرئيس الفرنسي في إفريقيا منذ بدء ولايته الأولى في 2017.وتأتي الزيارة بعد يومين على عرضه في باريس استراتيجية إفريقية للسنوات الـ4 المقبلة، تشمل تخفيض التواجد العسكري بشكل ملموس، وزيادة حضور الشركاء الأفارقة في القواعد العسكرية.فرنسا بلا نفوذ؟خلال السنوات القليلة الماضية، أقامت العديد من القوى الكبرى وعلى رأسها الصين وروسيا علاقات متنامية اقتصاديا وعسكريا مع دول القارة الإفريقية، حيث عكفت على عقد قمم دورية تجمع زعماء وقادة البلدان، مثل قمة روسيا إفريقيا والقمة الصينية الإفريقية.ومؤخرا اتخذت الولايات المتحدة خطوات مشابهة، من خلال عقد القمة الأميركية الإفريقية لأول مرة في واشنطن ديسمبر الماضي، والتي دعا خلالها الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تمثيل دائم لإفريقيا في جميع المنظمات الدولية.في ذات الوقت، تواجه فرنسا استياء متناميا وسط سكان البلدان الإفريقية، باعتبارها قوة استعمارية سابقة، إذ أقر ماكرون في تصريحات سابقة بذلك، داعيا إلى "بناء علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة" مع إفريقيا.الخبراء والمحللون السياسيون الذين تحدثوا لمنصة "المشهد"، اعتبروا أن هذه الزيارة تمثل بداية لمرحلة جديدة من قبل باريس لتغيير نظرتها إلى دول القارة الإفريقية لحماية مصالحها بعد سلسلة من الانتكاسات، حيث يقول المحلل السياسي كمال طربيه في حديثه مع منصة "المشهد":خلال السنوات الأخيرة تأثرت المصالح الفرنسية في دول عدة، بداية من مالي وحتى بوركينا فاسو (..) وهذه الزيارة تأتي بعد سلسلة من الانتكاسات المتلاحقة.منذ 10 سنوات عززت باريس من حضورها العسكري في القارة الأفريقية من أجل مواجهة المتشددين من الجماعات الدينية الإرهابية والجهادية الذين كانوا يهددون مصالح أوروبا وفرنسا فهذا التواجد لم ينجح في دول مثل مالي أو في بوركينا فاسو. ولم تستطع فرنسا احتواء هذه الجماعات المتشددة، مما أدى في النهاية لحدوث انقلابات في بعض الدول، واستغلال قوى كبرى مثل روسيا الفرصة لعرض المساعدات العسكرية.ومنذ أغسطس 2022 دُفع الجيش الفرنسي إلى الانسحاب من مالي وبوركينا فاسو من قبل المجلس العسكري الحاكم في كل من البلدين. كما أعلنت بوركينا فاسو وقف العمل بـ"اتفاق المساعدة العسكرية" أبرمته مع بارس غداة استقلالها عام 1961.وأعلنت فرنسا العام الماضي سحب آخر جنودها من مالي، لتنهي مهمة دامت 9 أعوام تحت ما يسمى عملية "برخان العسكرية"، والتي أطلقتها باريس في عام 2013، بهدف وقف تقدم المسلحين الإسلاميين المتشددين في بامكو بمشاركة دول إفريقية مجاورة.ويقول الأستاذ والباحث في الاقتصاد السياسي بالجامعات الفرنسية حسان القبي في حديثه مع منصة "المشهد": "يبدو أن فرنسا تريد أن تكون حاضرة من خلف الستار ليس كمثل الطريقة التي كانت تتواجد بها في مالي أو بوركينا فاسو". بدوره، انتقد السياسي الفرنسي اليميني والعضو السابق في المكتب السياسي لحزب الجبهة الوطنية فريد سماحي، استراتيجية ماكرون الجديدة في إفريقيا، قائلا في حديثه مع منصة "المشهد": تهدف زيارة ماكرون إلى تصفية ما تبقى من (فرنسا-إفريقيا) تاركا المجال لأوروبا والولايات المتحدة ضد فرق فاغنر الروسية والصين.بالنسبة لي، لم يعد للجيش الفرنسي أي مكان في هذا العالم الذي أصبح مقسما بين روسيا والصين وأميركا وحلف شمال الأطلسي الذي يستعد لألمنة الاتحاد الأوروبي. وهذا الأسبوع أعلن الرئيس الفرنسي في بيان نشره الإليزيه، أنه يرغب في وضع "نموذج جديد للشراكة" فيما يتعلق بالجانب العسكري بإفريقيا، حيث تتضمن الاستراتيجية الجديدة المعلنة، إعادة التفكير بشكل خاص في مفهوم القواعد العسكرية، و"تغيير مظهرها وبصمتها"، حيث سيتم تحويل بعضها إلى أكاديميات عسكرية، والبعض الآخر إلى "قواعد مشتركة".ماذا يريد ماكرون؟يرغب الرئيس ماكرون في استبدال التواجد العسكري بمشروعات طويل الأمد، من أجل المحافظة على النفوذ عبر التنمية الاقتصادية الشاملة لدول القارة وذلك بمساهمة فرنسية خالصة، بحسب ما يقول طربيه، الذي يضيف أيضا: "ما يحاول فعله بشكل أساسي هو وضع حد لتراجع الحضور الفرنسي، وأخذ العلاقات مع الأفارقة نحو مرحلة جديدة".ويعتبر طربيه أن ماكرون يعمل على زيادة التعاون وتطوير شركات واسعة تحد من نفوذ دول أخرى مثل الصين، مشددا في ذات السياق على أن باريس لا يزال لها تأثيرا وتواجدا في القارة السمراء.ويرى القبي أن دور فرنسا بدأ يتراجع في القارة السمراء منذ تسعينيات القرن الماضي، "فبعد أن كان التواجد للقوى الاستعمارية فقط، دخل لاعبون جدد مثل الصين التي بضخ استثمارات أجنبية مباشرة. وفي الفترة الأخيرة هناك تنام للدور الروسي والتركي أيضا، وكذلك الولايات المتحدة التي تبحث عن تواجد عن طريق المساعدات والاستثمارات".وبحسب آخر إحصاءات منشورة عبر " statista"، فإن الصين استحوذت على 16% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة للقارة الإفريقية خلال الفترة بين 2014 و2018، تلتها الولايات المتحدة بنسبة 8%، ثم فرنسا بنسبة 8%.وفي ديسمبر الماضي، كشف تقرير لوكالة "بلومبيرغ" الأميركية عن ارتفاع الدين الخارجي لإفريقيا 5 أضعاف إلى 696 مليار دولار بين عامي 2000 و2020، حيث استحوذت الصين على 12% من إجمالي الديون، وذلك في وقت تتجه القارة نحو أزمة السداد، حيث تتعرض 22 دولة من أصل 54 لخطر ما يسمى بضائقة الديون، وفق معايير البنك وصندوق النقد الدوليين.فيما يقول طربيه: "فرنسا لن تكون مثل الصين التي أغرقت البلدان الإفريقية في الديون، واستغلت احتياجاتها التنموية (..) الدول المستدينة من بكين ستعاني من الديون خلال المدى المتوسط".وأشار إلى أن استراتيجية باريس تقوم حاليا على مبادئ الشراكة والتنمية، باعتبار أن له لها دورا تاريخيا في هذه إفريقيا، "حيث ستعمل على مساعدة البلدان في التطوير والتنمية والتدريب العملي والمهني للصعود بهم وباقتصاداتهم". ويضيف السياسي الفرنسي اليميني: "رؤساء الدول الإفريقية ليسوا أغبياء، لقد فهموا ما يحدث في العالم بناء على صراعات القوى الكبرى (..) هم الآن يقومون بتعديل سياستهم الدولية وفقا لما يحدث في العالم، وشعوبهم ستتبعهم".فيما يرى القبي أن السياسات الفرنسية السابقة بإفريقيا لم تلق نجاحا على مختلف المستويات، مضيفا: "إفريقيا اليوم، ليست إفريقيا ما بعد الاستقلال أو خلال العقود القليلة الماضية (..) اليوم هذه الدول تبحث عن استثمارات وبنى تحتية وتعاون تكنولوجي (..) وأعتقد أن ماكرون استوعب جيدا أن الطريقة القديمة للتعامل مع الأفارقة لا يجب أن تستمر بذات الكيفية". إلى ذلك، من المقرر أن تشهد جولة ماكرون في إفريقيا، تسليم الرئيس الغابوني نسخة من مجموعة من 900 ملف صوتي تم تسجيلها في الغابون قبل الاستقلال، بين عام 1954 و1970، وهي تغطي كامل التقاليد الشفوية والموسيقية في الغابون. كما سيوقع الرئيس الفرنسي، من أجل توسيع آفاق فرنسا في القارة، اتفاقية الجمعة في لواندا تهدف إلى تطوير القطاع الزراعي في أنغولا. (المشهد)