لحظات تاريخيّة عاشها الفرنسيّون عام 2024 الذي لن يُخطّ بكتابة عاديّة على أوراق روزنامتهم، فهو سيدخل التّاريخ من بابه العريض، إن كان من خلال أحداثه التي لفتت أنظار العالم أجمع، ممّا جعل مدينة الأنوار تشتعل لتضيء سماء العالميّة مجدداً مع مرور الشعلة والألعاب الأولمبية، أو من خلال إعادة افتتاح كاتدرائية "نوتردام". وإن كان هذان الحدثان قد أعادا إلى فرنسا مجدها النائم منذ فترة، إلّا أنّ ثقل الأحداث السّياسيّة ألقى بظلاله على البلاد.وهنا أبرز ما شهده عام 2024 وما قد يستجدّ في العام 2025 في الملف الفرنسي:استقالة بورن وتعيين أتال أزمة سياسية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، شهدتها فرنسا خلال عام 2024، وقد تجلت في تعاقب 4 حكومات خلال سنة واحدة فقط، بداية من حكومة إليزابيث بورن التي واجهت صعوبات وتحديات كبيرة خلال فترة رئاستها للوزراء، خصوصا في تمرير الإصلاحات المهمة مثل قانون التقاعد وقانون الهجرة المثير للجدل. وفي محاولة لإعطاء دفع جديد لسياسات الرئيس إيمانويل ماكرون، اضطرت إلى تقديم استقالتها في 8 يناير لتفسح المجال أمام تشكيل حكومة جديدة برئاسة غابريال أتال.نجاح كاسح لـ"اليمين المتطرّف" وانتخابات مبكرة إلا أن الأزمة السياسية تعمقت مع نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، إذ حقق حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف نجاحا كاسحاً مفاجئًا بحصوله على 30 مقعدًا من أصل 80، ما شكّل صدمة للنخبة السياسية الفرنسية ودفع ماكرون إلى اتخاذ قرار جريء بحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، في محاولة منه لإعادة رسم المشهد السياسي.برلمان منقسم بشكل حادّ لكن الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو ويوليو 2024 جاءت بنتائج أكثر تعقيدًا، إذ أفرزت برلمانًا منقسمًا بشكل حادّ، فتصدر فاز تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري بـ 193 مقعداً، متفوقًا على حزب النهضة (ماكرون) الذي حصل على 166 مقعداً، بينما حل التجمع الوطني اليميني في المرتبة الثالثة بـ 142 مقعداً برلمانيّاً.أتال يستقيل وماكرون يرفض كاستيتس في 15 يوليو، قدّم رئيس الحكومة غابرييل أتال استقالته بعد حالة من الشلل السياسي الفاضح. وفي 26 أغسطس، رفض ماكرون تعيين لوسي كاستيتس، مرشّحة الجبهة الشعبية الجديدة، لمنصب رئيس الوزراء، في خرق واضح للتقاليد السياسية الفرنسية التي تقضي بتعيين زعيم الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية على رأس الحكومة. قرار أثار جدلاً واسعاً، وأِشعل أزمة دستورية حادة، دفعت حزب فرنسا الأبية اليساري، العمود الفقري للجبهة الشعبية الجديدة، إلى الشروع في إجراءات عزل ماكرون. تعيين بارنيييه وسقوط حكومته بعد 3 أشهر في 5 سبتمبر، حاول ماكرون إحتواء الأزمة، عبر تعيين ميشال بارنييه رئيسًا للوزراء، لكن حكومته التي تشكلت من تحالف أقلية لم تصمد سوى 3 أشهر. إذ في سابقة تاريخية لم تشهدها فرنسا منذ عام 1962 سقطت حكومة بارنييه بتصويت لحجب الثقة في 4 ديسمبر، لتصبح أقصر الحكومات عمرًا في تاريخ الجمهورية الخامسة.تعيين بايرو في ظروف استثنائيّة في 13 ديسمبر، عين ماكرون فرانسوا بايرو، زعيم الحركة الديمقراطية، رئيسًا للوزراء في ظروف استثنائية، وسرعان ما انعكست حدة الأزمة السياسية على الوضع الاقتصادي. إذ خفضت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني لفرنسا، محذرة من أن الانقسام السياسي يعيق جهود الإصلاح المالي.وكأنّ الوضع السياسي الداخلي المتأزم لا يكفي، شهدت فرنسا قلاقل واضطرابات، في الدّاخل وأقاليم ما وراء البحار وهنا أبرزها: احتجاجات وأعمال شغب في كاليدونيا الجديدةفي مايو 2024، اندلعت الاحتجاجات وأعمال الشغب في كاليدونيا الجديدة، وهي تجمع فريد من نوعه لفرنسا في ما وراء البحار في المحيط الهادئ. وأدت الاحتجاجات العنيفة إلى مقتل ثمانية أشخاص، وإعلان حالة الطوارئ في 16 مايو، وانتشار القوات البرية الفرنسية، وحجب شبكة التواصل الاجتماعي تيك توك. ويعود السبب إلى رفض التعديلات الدستورية التي تتيح حقوق التصويت للمهاجرين الذين عاشوا في كاليدونيا الجديدة لعشر سنوات.احتجاجات في المارتينيك أعلنت السلطات الفرنسية في المارتينيك فرض حظر تجول ليلي للحد من السفر في مناطق معينة في فورت دو فرانس ولامينتين. وشهدت الجزيرة أعمال عنف لأيام عدة في سياق حركة احتجاجية ضد ارتفاع تكاليف المعيشة بدأت مطلع شهر سبتمبر.المزارعون يقطعون الطرق احتجاجاً شهدت فرنسا تحركات احتجاجية نظمها مزارعون للتنديد بظروف العمل في هذا القطاع الحيوي الذي يعاني من ارتفاع تكاليف الإنتاج والقيود الأوروبية والالتزامات البيئية التي تطالبهم باتخاذ تدابير للتقليل من انبعاثات الغازات الدفيئة. وأغلق المزارعون المحتجون الطرق الرئيسة في مناطق عدّة والتقاطعات الدائرية استجابة لدعوة النقابة الزراعية الأولى.حكم نهائي على ساركوزي: فاسد في إدانة نهائية هي الأولى لرئيس سابق، أقرت في شهر فبراير محكمة النقض رفض الطعن الذي قدمه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في قضية التنصت، مما جعل إدانته بالسجن لمدة عام مع المراقبة الإلكترونية بتهمة الفساد واستغلال النفوذ غير قابلة للاستئناف. وقد أعلن لاحقا عزمه الطعن أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وفق ما أعلن محاميه. إدانة فيون في قضية "الوظائف الوهمية" أكدت محكمة التمييز الفرنسية بشكل نهائي إدانة رئيس الوزراء السابق فرانسوا فيون في قضية "الوظائف الوهمية" الممنوحة لزوجته، لكنها أمرت بمحاكمة جديدة بشأن العقوبات الصادرة بحقه والغرامة المفروضة عليه. الادعاء يطالب بسجن مارين لوبان طالبت النيابة العامة الفرنسية بعقوبة السجن خمس سنوات ومنع مارين لوبان من تولي مناصب رسمية للمدة ذاتها، في قضية تتعلق باختلاس أموال البرلمان الأوروبي، ما يهدد طموحها الرئاسي لعام 2027. وتواجه لوبان وحزبها غرامات مالية، وسط اتهامات بتأسيس وظائف وهمية للاختلاس. فيما اعتبرت لوبان أن هذا الإجراء هدفه "حرمان الفرنسيين من خياراتهم"، ووصف رئيس حزبها الاتهامات بأنها "انتقام سياسي". التضخم يسجل 2.2% أظهرت بيانات أولية من المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا تراجع تضخم أسعار المستهلكين في أغسطس عنه قبل عام. وذكر المعهد أن تراجع التضخم يرجع في الأساس إلى انخفاض أسعار المنتجات البترولية وأسعار الكهرباء.تهديدات بشنّ هجمات على المدارس أكدت الشرطة الفرنسية أن مؤسسات تعليمية في شمال فرنسا تلقت رسائل تهدد بشن هجمات عليها بُثت من خلال اختراق مساحات عملها الرقمية. وسجلت الحكومة الفرنسية 800 إنذار كاذب بوجود قنابل في منتصف نوفمبر."هجوم ضخم" طال شبكة القطارات السريعة استهدف "هجوم ضخم واسع النطاق" شبكة القطارات السريعة التابعة لشركة السكك الحديد الفرنسية "إس إن سي إف"، ما أدى لاضطرابات شديدة طالتها. ويأتي ذلك فيما كانت البلاد تستعدّ لحفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس. وجاء الهجوم في شكل "حرائق متعمدة أضرمت بهدف الإضرار" بمنشآت الخطوط السريعة، وفق بيان لشركة السكك الحديد. الحدث التاّريخي للعام 2024: افتتاح الألعاب الأولمبية افتُتحت ألعاب باريس 2024 رسميا مساء الجمعة 26 يوليو 2024 إثر عرض رائع غير مسبوق على نهر السين شارك فيه 6800 رياضي من 205 دول أمام معالم تاريخية في العاصمة الفرنسية. وقال الرئيس إيمانويل ماكرون الجملة البروتوكولية تحت الأمطار أمام برج إيفل: "أعلن افتتاح دورة الألعاب الثالثة والثلاثين للألعاب الحديثة". إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام بحضور الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ونحو 40 رئيس دولة وحكومة، تعاود كاتدرائية نوتردام في باريس فتح أبوابها السبت في مراسم احتفالية بعد سنوات أعمال إعادة ترميمها إثر حريق أتى عليها في 15 أبريل 2019.كيف يمكن، بعد هذا العرض، تلخيص الأشهر الاثني عشر الماضية؟ يقول المحلّل السّياسي الفرنسيّ المختصّ في العلاقات الدولية بيار لوي ريمون لمنصة "المشهد" إن "سنة 2024 تندرج وتندمج في صورة السنوات المتعاقبة التي سبقتها والتي رأينا فيها تقاطع أزمات عدّة، أزمة صحية مع فيروس كورونا، أزمة جيوسياسية بعودة الحرب إلى القارة الأوروبية، وأزمة نراها هنا في فرنسا تتميز بفقدان الثقة في السياسة". ويسأل ريمون في هذا الإطار، "إلى أي حد يمكن استرجاع الإيمان الجماعي بأهم القيم الأساسية لبناء مجتمع يحقق التعايش الناجح وهي قيم العدالة والحريات الفردية والجماعية واحترام الفوارق ومنع تغليب أيديولوجية وتوجه فكري على حساب آخر؟".معضلة سياسية – اقتصادية كبيرة في 2025 من جهته، يرى المحلّل السّياسي المتخصّص بالعلاقات الدّوليّة أنطوان الحاج في حديث لمنصّة "المشهد" أن "فرنسا ستواجه في العام 2025 معضلة سياسية – اقتصادية كبيرة، تخوضها الآن حكومة برئاسة السياسي المجرَّب فرنسوا بايرو، وهو رابع رئيس وزراء في سنة 2024 وحدها، وهذا مؤشّر على عدم استقرار سياسي لم تشهده فرنسا منذ عقود". وأشار إلى أنه "من المعروف أن فرنسا تتخبّط في أزمة سياسية منذ أن دعا الرئيس ماكرون إلى انتخابات برلمانية مبكرة في الصيف الماضي أفضت إلى برلمان منقسم بين 3 كتل متنافرة لا تملك أيّ منها أغلبية مطلقة.لا يوجد أي مرتكَز لإمكان نجاح بايرو لا يوجد أي مرتكَز يمكن القول على أساسه إن بايرو سينجح حيث فشل سلفه ميشال بارنييه الذي أسقطه حجب الثقة عنه من اليسار واليمين المتطرف في الجمعية الوطنية". وسأل الحاج في هذا الإطار، "كيف سينجح بايرو في اجتراح موازنة تخفف العجز المالي الكبير وتخفض الدين العام، وتضع فرنسا على طريق الانتعاش الاقتصادي وخلق الوظائف ودفع النموّ؟".هل ما زالت فرنسا دولة عظمى؟ واعتبر أنّ "الوجه الآخر للمشكلة يتجسّد في تصنيف الدول، فهل ما زالت فرنسا دولة عظمى تستحق المقعد الدائم الذي تشغله في مجلس الأمن الدولي؟ وهل هي فعلاً العمود الصلب الثاني الشريك لألمانيا في حمل الاتحاد الأوروبي والحفاظ على تماسكه؟ وهل تضطلع فرنسا فعلياً بأي دور مؤثر في معالجة الأزمات العالمية كما في الشرق الأوسط مثلاً؟". وختم قائلاً: "لعل الجواب الحاسم على كل هذا سيتبدّى في طريقة تعامل فرنسا مع أميركا – دونالد ترامب العائد إلى البيت الأبيض بعد أيام".خلاصة القول، إن سيّد الإليزيه يختتم عام 2024 ، وفرنسا عند مفترق طرق تاريخي، فالمشهد السّياسي الذي أوصل بلاده إليه جرّاء تعاقب 4 حكومات خلال عام واحد، غير مسبوق، ولا بدّ أنّ تبعاته ستكون وخيمة على المجتمع الفرنسيّ الغارق في انقسامات عميقة. ولعلّه ليس من قبيل المبالغة ما تذهب إليه بعض الأوساط الدّاعية إلى إنهاء حقبة الجمهورية الخامسة ووضع دستور الجمهورية السادسة لمواكبة وقائع العصر… (المشهد - باريس)