شهد عام 2023 تكرار العديد من زعماء العالم، ضرورة رفع معدّلات الولادات في بلدانهم، وحث النساء على إنجاب المزيد من الأطفال من خلال حزمة من الحوافز والإجراءات التشجيعية. الدعوات النظرية والتحرّكات العملية لهؤلاء القادة جاءت بالتزامن مع تصاعد في حدة الصراعات في أرجاء مختلفة من العالم، وفي ظل العديد من التحدّيات التي تواجهها كالجفاف الناتج عن التغير المناخي والاضطرابات في توزيع الثروات في القارة الإفريقية خصوصاً وغيرها من المناطق حول العالم.وتسعى العديد من الحكومات، التي تشعر بالقلق إزاء انخفاض معدّلات المواليد في بلدانها، إلى اتّخاذ تدابير مختلفة في محاولاتها لرفع معدّلات المواليد، وذلك من خلال تذليل العقبات والتحديات التي تحول دون إنجاب العائلات للأطفال. تشكّل سياسات التشجيع على الإنجاب، التي بدأت تظهر في العديد من الدول، عكس النظرية التقليدية التي سادت خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، لجهة ضرورة ضبط النمو السكاني كشرط لتحقيق الرخاء الاقتصادي والمعيشي للسكّان. ووفق أرقام الأمم المتّحدة فإن متوسط الخصوبة في العالم والبالغ 4.5 أطفال لكل امرأة في أوائل السبعينات، انخفض بمعدّل قريب من النصف في عام 2015، ليبلغ أقل من 2.5 أطفال لكل امرأة. ومن ناحية أخرى، وصل عدد سكان العالم، الذي بلغ 7 مليارات نسمة في عام 2011، إلى 8 مليارات نسمة في نوفمبر الماضي. ومن المتوقع أن ينمو إلى حوالي 8.5 مليارات في عام 2030، وفقا للأمم المتحدة. وقالت الأمم المتحدة إن النمو الكبير كان مدفوعا بتزايد أعداد الأشخاص الذين يعيشون حتى سن الإنجاب، مصحوبا بزيادة التحضر وتسارع الهجرة. وارتفع متوسط العمر العالمي من 64.6 عامًا في أوائل التسعينيات إلى 72.6 عامًا في عام 2019، نتيجة لتحسن الرعاية الصحية والتغذية والنظافة والطب، وفقًا للأمم المتحدة. بوتين يحث الروسيات على إنجاب المزيدبالأمس، كرّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دعوته لرفع معدّلات الإنجاب في البلاد، مناشداً النساء الروسيات لإنجاب "ما يصل إلى 8 أطفال وجعل تكوين أسر كبيرة قاعدة" حسب تصريحاته. دعوة الرئيس الروسي تزامنت مع سلسلة من الخطط التي وضعتها موسكو خلال السنوات الأخيرة لزيادة المواليد في البلاد، التي انخفض متوسط معدل مواليدها إلى أقل من 1.5 لكل امرأة خلال السنوات الأربع الأخيرة. أقرّ الرئيس الروسي مزايا للرعاية الاجتماعية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 7 سنوات في الأسر ذات الدخل المنخفض، ومع توفير وجبات مدرسية مجانية للسنوات الأربع الأولى من الدراسة. وتتمتع الأمهات اللاتي لديهن 4 أطفال ببعض الإعفاءات الضريبية في روسيا، التي يكافح سكّانها للتعافي من الانخفاض الكبير الذي حدث في التسعينيات، وصولاً إلى معدل مواليد 1.16، وهو أقل حتى مما كان عليه خلال الحرب العالمية الثانية. يربط بوتين "مصير روسيا ونظرتها التاريخية بعدد سكّانها"، حسب تصريحاته. وعلى الرغم من أن تعليقات الرئيس الروسي لم تشر بشكل مباشر إلى خسائر الجيش الروسي في حرب أوكرانيا، إلا أن العديد من وسائل الإعلام الغربية ربطت البيان بخسائر الحرب، التي قدّرت وزارة الدفاع البريطانية عدد القتلى الروس فيها بأكثر من 300 ألف. فيما تشير مجموعة السياسة الروسية المستقلة إلى فرار ما يقرب من المليون شخص من البلاد، التي باتت تعاني من نقص حاد في القوى العاملة وتباطؤ النمو الاقتصادي بسبب العقوبات التي فرضها الغرب.كوريا الشمالية تحث على الإنجاب أيضاً لكن تكرار الدعوات من قبل زعماء غير منخرطين في حروب مباشرة يقلل من احتمال وقوف الخسائر البشرية وراء مطالب بوتين. فقد دعا الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون إلى بذل جهود لمعالجة انخفاض معدلات المواليد في البلاد، واصفاً التحدي بأنه "تدبير منزلي للجميع". ويقدّر صندوق الأمم المتحدة للسكان أنه اعتبارًا من عام 2023، بلغ معدل الخصوبة، أو متوسط عدد الأطفال الذين يولدون للمرأة في كوريا الشمالية، 1.8، وسط انخفاض مستمر خلال العقود الأخيرة.واضطرت كوريا الشمالية، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 25 مليون نسمة، في العقود الأخيرة إلى مواجهة نقص خطير في الغذاء، بما في ذلك المجاعة القاتلة في التسعينيات، نتيجة كوارث طبيعية ألحقت أضراراً بمحاصيلها.الصين قلقة من تراجع نسبة الولادات مقابل تصاعد خصمها الهند وبالمثل، دفع القلق من تراجع عدد السكان، المستشارين السياسيين للحكومة الصينية إلى أعداد أكثر من 20 توصية لزيادة معدّلات المواليد في البلاد، التي تسببت لنفسها بفجوة ديموغرافية كبيرة من خلال سياسة الطفل الواحد التي فرضتها بين عامي 1980 و2015. وعلى الرغم من أن السلطات رفعت الحد الأقصى للأطفال إلى 3 في عام 2021، لكن معدّلات النمو لم تسجّل ازدياداً ملحوظاً أثناء الإقامة في المنزل في فترة جائحة كورونا، وذلك بسبب مشاكل خاصة بتكاليف رعاية الأطفال والتعليم، وانخفاض الدخل، وضعف شبكة الأمان الاجتماعي، وعدم المساواة بين الجنسين، وغيرها. وتتراوح المقترحات الرامية إلى تعزيز معدل المواليد، والتي تم تقديمها في الاجتماع السنوي للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، بين تقديم الإعانات للأسر التي تربي طفلها الأول، وليس الثاني والثالث فقط، وتوسيع نطاق التعليم العام المجاني والوصول إلى علاجات الخصوبة. وانخفض معدل المواليد في الصين في عام 2022 إلى 6.77 ولادة لكل 1000 شخص، من 7.52 ولادة في عام 2021، وهو أدنى مستوى على الإطلاق. ويحذر الخبراء الصينيون من شيخوخة قد تصيب البلاد قبل أن تصبح غنية، حيث تتقلص قوتها العاملة وتنفق الحكومات المحلية المثقلة بالديون المزيد على سكانها المسنين. وتتوقع أن ينخفض معدل النمو السكاني بشكل مفاجئ مجدداً خلال 20 إلى 30 عاماً عندما يصل جيل الطفل الواحد، الذي بدأ في أواخر السبعينيات وانتهى في عام 2015، إلى سنواته الأخيرة، وهو ما يقوّض من الجهود التي بذلتها الصين لزيادة تصنيع وتصدير البضائع باستخدام العمالة الرخيصة والمواد الخام وتكاليف النقل المنخفضة في القرن الماضي والتي أدّت إلى تقدم اقتصادي كبير. إلى جانب ذلك، يهدّد تراجع نسبة الخصوبة الحكومة بمشاكل تتعلق بفائض في المعروض من العقارات والمرافق العامة والبنية التحتية الاجتماعية، مثل السكك الحديدية عالية السرعة والمدارس والمطارات، مقابل ضرورة زيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، بما في ذلك معاشات التقاعد والرعاية الصحية للمتقاعدين، في وقت يتقلّص فيه عدد دافعي الضرائب.ترامب يحذو حذو الزعماء الآسيويين على الرغم من مواجهة الدول الغربية لمشكلة الشيخوخة السكانية لمجتمعاتها من خلال الاستعاضة عن الوظائف الصناعية بالخدمات والتكنولوجيات الجديدة التي تتطلب عدداً أقل من العمال، ومن خلال استقدام اليد العاملة من المهاجرين الأجانب، إلا أن الرئيس الأميركي السابق انضم إلى الزعماء الآسيويين في الدعوة لزيادة معدّلات الخصوبة في الولايات المتّحدة. وأعلن المرشّح الرئاسي لانتخابات العام المقبل، عن خطط "مكافآت مواليد" للأزواج بهدف خلق "طفرة مواليد" جديدة، وذلك كجزء من حملته للوصول إلى البيت الأبيض مرة أخرى.أوروبا ليست بعيدة عن اعتماد خطط مشابهة في السياق، يرى الكاتب المتخصص في الاقتصاد حازم عوض، في حديثه إلى منصّة "المشهد" أن الدعوات المتكررة من أكثر من زعيم لزيادة معدلات الخصوبة في بلادهم "تأتي من خلفيات اقتصادية بالدرجة الأولى. فالقوّة البشرية هي من أهم حوامل النهضة الاقتصادية، وكما في الثورات والتحوّلات الصناعية السابقة، فإن النهضة في صناعة التكنولوجيا بحاجة إلى عنصر بشري وقوة عاملة". وأضاف عوض أن "جميع الدول تتّجه اليوم للاكتفاء الذاتي، ومن ثم البدء في التأثير في محيطها، وهذا ما يفسّر الرغبة الصينية والروسية على وجه الخصوص لزيادة عدد سكّانها". ويشرح عوض أن "الدول الغربية حاولت تعويض تراجع معدّلات الخصوبة فيها بالعمالة الوافدة نتيجة الهجرات، خصوصا من المنطقة العربية التي تعتبر من أولى بلدان تصدير اليد العاملة، لكنها اصطدمت بمشكلة تلاشي الهويّات الوطنية ومفهوم الأمة فيها، وظهور مشاكل بنيوية في مجتمعاتها". ويتوقّع عوض "ألا تتأخر الدول الغربية، والأوروبية على وجه الخصوص في اللحاق بركب مثيلاتها من الداعين إلى زيادة نسبة الولادات في محاولة للتغلب على مشاكلها الاجتماعية". ويختم عوض حديثه إلى منصّة "المشهد" بالقول "بالنسبة للدول التي تعتمد على العمالة الوافدة، فإن تزايد عدد سكانها وبالتالي القوّة البشرية فيها سيؤدي إلى تراجع الأموال المحوّلة من قبل الوافدين إلى بلدانهم الأصلية ما يعني تنشيط الاقتصاد وزيادة موارد الدولة وميزانيّتها، لذا نرى حرصاً من قبل معظم الدول على الحفاظ على اليد العاملة فيها، وزيادتها قدر الإمكان".(المشهد)