عاد الوضع في مالي ليشغل مخاوف الجزائر التي رعت في وقت سابق "اتفاق السلم والمصالحة"، الذي تحقق نتيجة جهود دبلوماسية، حيث عملت البلاد لسنوات طويلة من أجل طيّ ملف الأزمة المالية. وبينما ترقبت أطراف عدة استقرار الوضع بمجرد انسحاب فرنسا من المشهد في المنطقة، فإنّ الواقع كشف عن استمرار التوترات وتوسّع دائرة الهجمات الإرهابية، ما يضع الجزائر أمام تحديات ملء الفراغ واستتباب الأمن، في ظل التوتر بين الجماعات المسلحة والأزواد في شمال مالي. فما مصير اتفاق السلام 2015 في ظل هذه التوترات؟ما هو اتفاق الجزائر؟يشكّل اتفاق السلم والمصالحة الذي وقّعته الحكومة المالية مع الحركات الأزوادية برعاية الجزائر في مايو 2015، ونصّت بنوده على: إعادة بناء الوحدة الوطنية للبلاد، على قواعد تحترم وحدة أراضيها وتأخذ في الاعتبار تنوّعها الإثني. وعلى استعادة السلام في مالي بشكل أساسي، من خلال عملية اللامركزية أو الإقليميّة. وإعادة تشكيل جيش وطنيّ من أعضاء الجماعات المسلحة السابقة الموقّعة. وتعزيز الاقتصاد بخاصة في الشمال على أساس الحوار والعدالة والمصالحة الوطنية.وقال وزير الخارجية الجزائرية أحمد عطاف، في تصريح صحفي سابق عقب محادثات ثنائية مع نظيره المالي عبد الله ديوب، ووزير الدفاع الوطنيّ وقدماء المحاربين ساديو كمارا، ووزير المصالحة الوطنية المكلف باتفاق السلم والمصالحة في مالي، المنبثق عن مسار الجزائر إسماعيل واغي، إنّ "الجزائر تجدد دعمها الدائم المتواصل لجمهورية مالي في سبيل تحقيق أولويات المرحلة الانتقالية، وتجسيد الاستحقاقات الوطنية التي من شأنها أن تُفضي إلى عودة البلاد إلى الوضع الدستوري في الآجال التي حددتها مالي الشقيقة، بصفة سيادية"، منوّها بجهودها الرامية "لمواجهة التحديات الأمنية التي تفرضها التهديدات الإرهابية".وأكد عطاف: "من منطلق حرص الجزائر على أمن واستقرار جمهورية مالي الشقيقة، وبحكم تولّيها قيادة الوساطة الدولية، ورئاسة لجنة متابعة تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة في مالي، فإنّ الجزائر على استعداد لتكثيف مساعيها الرامية لاستعادة وتعزيز الثقة بين الأطراف المالية الموقّعة على الاتفاق، ومرافقتها نحو بلورة التوافقات الضرورية للمضيّ قُدما في تجسيد مضامين الاتفاق على أرض الواقع، بما يحفظ وحدة البلاد وشعبها.مصير اتفاق السلام في ماليوكان أعضاء الوساطة الدولية قد جددوا السنة الماضية تأكيد ضرورة التعجيل في تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة في مالي، المنبثق عن مسار الجزائر (2015)، مشددين على أهمية هذه الخطوة التي تساهم في تحقيق الاستقرار الدائم في مالي، وتشكل مكوّنا أساسيا في المشروع الشامل لإعادة بناء الدولة.وبخصوص الانعكاسات المحتملة على مصير "إتفاق السلم" يرى الدكتور خالد خليف أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية - بجامعة عنابة الجزائر – في تصريح لـ"المشهد"، أنّ هناك العديد من العوامل: التهديد المحتمل مرتبط بعزوف أطراف المشهد المالي عن الجلوس على طاولة الحوار، وعدم تقريب وجهات النظر بين كل الفاعلين، سواء الجيش أو الحركات والتنظيمات السياسية المالية، لأنّ كل خطوة في اتجاه رفض الحوار وتنسيق الأدوار بين كل الأطراف المالية، سيقرّبهم أكثر نحو الصدام ونحو العنف وانهيار كل العملية السياسية التي رسمها اتفاق الجزائر.التأثير له أبعاد أمنيّة وأخرى استراتيجيّة لمالي، من مكانة كخاصرة للعمق الاستراتيجيّ على اعتبار طول الحدود مع الجزائر، ما يهدد بانتشار الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية والتهريب.ويتابع خليف: "أعتقد أنّ الجزائر تدرك أنّ العوامل الداخلية ليست الوحيدة التي قد تؤثر على اتفاق السلام، بل هناك عوامل خارجية حاضرة بقوة داخل المشهد المالي، وبالتالي فهي تحاول الدفع بقوة نحو إيجاد أكبر مساحة من التوافقات بين الأطراف المالية، والبقاء على المسافة نفسها مع الجميع، حتى تضمن النجاح نحو ايجاد حلول ورأب كل التصدعات بين القوى المالية، وهذا يظهر في حرص الجزائر على تأكيدها، والتمسك بالحلول السياسية السلمية المبنيّة على الاتفاق والحوار".فرنسا في قفص الاتهاممن جهته، يقول أستاذ العلوم السياسية عمر سعدون في تصريح لـ"المشهد"، إنّ مساعي الجزائر الدبلوماسية لحلحة الأزمة في مالي بدأت منذ 1963، تاريخ أول حرب عسكرية بين الحكومة المالية وحركة الأزواد، وقادت الدبلوماسيّة الجزائرية مساعيَ كبيرة لرأب الصدع الماليّ من جهة، ومنع التدخل الأجنبيّ من جهة ثانية، بالإضافة إلى مكافحة الجماعات الإرهابية والمتطرفة على مستوى حدودها الجنوبية الشاسعة، إلى أن نجحت يوم 15 مايو 2015، في دفع الأطراف المالية إلى توقيع اتفاق السلم والمصالحة.ويرى سعدون "أنه لا يستبعد أن تكون لفرنسا يد في ما يحدث في مالي بعد انسحابها من البلاد، وبعد أن قررت باماكو إلغاء الاتفاقيات التي تحدد إطارا قانونيًا لوجود قوّتَي "برخان" الفرنسية و"تاكوبا" الأوروبية، وكذلك اتفاقية التعاون الدفاعي التي أبرمتها مع فرنسا في 2014، وهذا ما يدعو فرنسا للسعي لمواصلة خططها لدعم عدم استقرار المنطقة من جهة، وضرب "اتفاق السلام" الذي أطلقته الجزائر عام 2015".ويتابع عمر قوله إنّ "فرنسا تحاول التأثير على قرارات الحكومة المالية ضمن مواقفها مع النيجر، وإجهاض أيّ محاولة من شأنها حلحلة الأزمة في الساحل الإفريقي، وعلى رأسها المبادرة الجزائرية، بالإضافة إلى قلقها من وجود دول كبرى وعظمى، وأخرى إقليميّة، تريد لها مكانة في خريطة شراكات الدول الإفريقية، خصوصا في المجال الاقتصادي. وعلى هذا، هناك الصّين وروسيا، وهو ما يغيظ فرنسا التي تريد أن تبقى القارّة مرتعًا لوجودها ولنفوذها، خصوصا أنّها تعيش فترة تراجع كبرى على كل الأصعدة".الوساطة الدولية...حلول ممكنة؟من جانبه، شدّد الخبير في الشأن الإفريقي فؤاد جدو، على أنّ "التهرب من تطبيق اتفاق السلام، يعني عودة الصراع المسلح إلى شمال مالي، وذلك يعني تدهور الأوضاع الأمنية، وبالتالي زيادة نشاط الجماعات المسلحة المتطرفة (القاعدة وداعش) التي تستغل دوما المواجهة التي تقع في أطرف الصراع في البلاد".وأبرز جدو في تصريح لـ"المشهد"، أنّ "الجزائر دولة مجاورة وتتأثر مباشرة بتبعات النزاع، لذلك تبذل قصارى جهدها لحلحلة الأزمة، وتشجيع الماليّين على الحوار للخروج من هذه الدوامة"، وفي ما يتعلق بتدخل الجزائر عسكريًا خارج حدودها، قال: "لا ننسى أننا في منتظم دوليّ، وهناك قوانين ناظمة، والجزائر تحترم القانون الدوليّ، بل وتدعو الجميع لاحترامه".وعن معادلة التنمية لإقرار السلام، ومسار تطبيقها في مالي، وتأثيراتها على الجزائر، يذكر المتخصّص في الشأن الإفريقي العديد من العوامل، من بينها: قضية التنمية لا يمكن فصلها عن المقاربة الجزائرية التي تدمج بين كل من الأمن والتنمية، هذه المقاربة التي دعت الجزائر إلى تجسيدها حتى قبل أن تزداد الأمور تعقيدًا في الساحل.تحقيق سلم مستدام في ربوع مالي، لا يتأتى إلّا من خلال إدخال أمن الأفراد وممتلكاتهم في قلب كل مسار تنموي.يجب أن تكون من مهامّ هذا البلد خلق فضاء غير ملائم للإرهاب والجريمة المنظمة، وترقية المصالحة الوطنيّة بين الفرقاء الماليّين، وعدم ترك الفرصة للإرهاب لاستغلال الوضع الاقتصاديّ الهشّ.الدعم والمرافقة التي تقدمها الجزائر لمالي في الفترة الحالية، تبيّن أنها تولي الأهمية القصوى للجوانب الجوهرية، مقارنةً بالبناء المؤسّساتي أو الديمقراطي.الوضع الأمنيّ والاقتصاديّ الهشّ في مالي، سينعكس سلبا على الجزائر، وأيّ تشديد للعقوبات على باماكو من شأنه أن يقوّي الجماعات الإرهابية شمالي مالي، ويزيد من الهجرة غير النظامية نحوها، لذلك تنظر الجزائر بحذر إلى أيّ عقوبات غير مدروسة.الموقف الجزائريّ يتّسم بكثير من الاتزان والموضوعية، ونابع من مبدأ أساسيّ هو الحفاظ على الأمن كحاجة ضرورية للتنمية.(المشهد)