إذا أطاح الأتراك بالرئيس رجب طيب إردوغان في الانتخابات الأحد فسيرجع هذا بشكل أساسي لتبدل الأحوال الاقتصادية وما نتج عن ذلك من تدهور في أوضاعهم وقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية منذ نحو 10 أعوام.وتأتي الانتخابات في عام تحتفل فيه البلاد بمئوية الجمهورية التركية، وتمثل الانتخابات أكبر اختبار لإردوغان حتى الآن، وتظهر بعض استطلاعات الرأي أنه يأتي خلف مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو الذي لن يتوانى عن محو سياساته الاقتصادية. وهبطت شعبية إردوغان في السنوات القليلة الماضية تحت ضغط التراجعات التي شهدها سعر صرف الليرة واحتدام أزمة غلاء المعيشة نتيجة تمسكه بسياسته لخفض أسعار الفائدة رغم التضخم المتفاقم. لكن مقاييس أخرى للازدهار الاقتصادي تظهر أن التراجع بدأ قبل ذلك في عام 2013 تقريبا، الذي كان بمثابة نقطة التحول بعد عقد من النمو والرخاء المرتفعين تحت حكم إردوغان وحزبه العدالة والتنمية، وكان ذلك هو العام الذي فتحت فيه احتجاجات غير مسبوقة على مستوى البلاد ضد حكومته الباب على مصراعيه أمام قمع متواصل للحريات المدنية، وفي الوقت نفسه، تركت التغيرات العالمية في أوضاع السيولة بالأسواق تركيا وغيرها من الأسواق الناشئة تكابد للحصول على تمويل. وبداية عام 2013، بدأ المستثمرون الأجانب في الإحجام عن الأصول التركية لينصرفوا في نهاية المطاف عن أسواق العملات الأجنبية والائتمان والديون التي تتحكم فيها الدولة بشكل كبير. تداعيات الأزمة تقول رئيسة قسم العلاقات الدولية بجامعة إيشك في إسطنبول سيدا ديميرالب "كان إردوغان في الماضي قادرا على الوفاء بتعهداته لأنصاره، إلا أن الأزمة الاقتصادية كان لها تداعياتها، أنصاره لا يزالون راضين عنه وحتى يحبونه لكنهم لم يعودوا سعداء بتحمل التكلفة التي يتطلبها هذا منهم". ويحظى إردوغان بدعم قوي بين المحافظين والقوميين من أبناء القرى والطبقة العاملة، وتظهر استطلاعات رأي أخرى في الوقت نفسه أن بإمكانه وبإمكان ائتلافه الحاكم الفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وتقول الحكومة إن تدابير خفض الفائدة عززت الصادرات والاستثمارات في إطار برنامج يحفز على حيازة المدخرات بالليرة، وضاعفت الحكومة الحد الأدنى للأجور خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية وأنفقت أموالا قياسية على الدعم الاجتماعي مما ساعد على الإبقاء على النمو الاقتصادي قويا فوق الخمسة بالمئة العام الماضي، كما ساهم التحفيز في خفض معدل البطالة إلى عشرة بالمئة من 14 بالمئة تقريبا خلال العامين الماضيين. تضخم كبير إلا أن قيام السلطات بخفض الفائدة من 19 بالمئة إلى 8.5 بالمئة منذ 2021 دفع التضخم إلى أعلى مستوياته تحت إدارة إردوغان إلى ما يزيد عن 85 بالمئة العام الماضي، وكانت المرة الأخيرة التي لامس فيها التضخم السنوي المعدل المستهدف رسميا عند الخمسة في المئة في 2011. ووفقا لمؤشر جيني لقياس عدالة توزيع الدخل والثروة فقد كان عام 2011 هو العام الذي بدأ فيه تزايد التفاوت في عدالة توزيع الموارد، وتسارع هذا الاتجاه في 2013 الأمر الذي محا المكاسب الكبيرة التي تحققت في الفترة من 2006 إلى 2010 خلال العقد الأول من حكم إردوغان. وصنف معهد ليجاتوم البحثي ومقره المملكة المتحدة تركيا في المرتبة الخامسة والتسعين عالميا على مؤشر الازدهار الخاص به، متراجعة 23 مرتبة منذ عام 2011 بسبب تدهور الحوكمة والحريات الشخصية.صعود وهبوطوصل حزب العدالة والتنمية حديث التأسيس آنذاك بزعامة إردوغان إلى السلطة عام 2002 في وقت كان الاقتصاد يتعافى فيه من أسوأ ركود شهده منذ السبعينات، بعدما تعهد الحزب بالابتعاد كل البعد عن ممارسات سوء الإدارة ومسببات الركود التي لطالما أصابت الأتراك بالإحباط.وتولى إردوغان منصب رئيس الوزراء بالتزامن مع تراجع حدة تدابير التقشف التي فرضت بموجب برنامج لصندوق النقد الدولي في عامي 2001 و2002، وقد استفاد من هذا التعافي فضلا عن التقارب الدبلوماسي مع الغرب لتحقيق ازدهار استمر 10 سنوات، انخفض خلالها كل من الفقر والبطالة.كما تباطأ التضخم الذي كان في خانة المئات قبل عقد، مما عزز جاذبية الليرة التركية، وأدت سياسات التيسير المالي الغربية في أعقاب الأزمة المالية عامي 2008 و2009 إلى تدفق الائتمان الأجنبي الرخيص ودعمت طفرة في نشاط التطوير العمراني في تركيا.وبدا في تلك الفترة أن إردوغان يحلق بعيدا، لكن الأمور بدأت تتغير في 2013، عندما اجتاحت البلاد احتجاجات اندلعت شرارتها من حديقة جيزي في إسطنبول، وأعقبتها اشتباكات واعتقالات وأحكام بالسجن واسعة النطاق.وتزامن هذا مع شح الائتمان الميسر مما أدى إلى موجة من هروب الأموال من تركيا، وشكّل عاما 2012 و2013 نقطة تحول بالنسبة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يقيس الازدهار باحتسابه بالدولار، فضلا عن التوظيف وغيرهما من مقاييس الرفاه الاقتصادي.ووفقا للإحصاءات الرسمية لحيازات السندات وبيانات (توركي داتا مونيتور) لمراقبة البيانات التركية فإن تلك الفترة شهدت ذروة الاستثمار الأجنبي، وتراجعت الليرة منذ ذلك الحين بما في ذلك بنسبة 80 بالمئة مقابل الدولار خلال السنوات الخمس الماضية مما قلص القوة الشرائية للأتراك.ويوضح مراد أوجار المستشار لدى جلوبال سورس بارتنرز والمحاضر في جامعة كوتش بإسطنبول أن "تزايد الإنتاجية الذي تحقق في السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية بدأ يتراجع بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 و2009 وأن الائتمان أصبح المحرك الرئيسي للنمو وليس الإنتاجية"، مشيرا إلى أن "هذا إلى جانب انخفاض القيمة الحقيقية لليرة الذي تفاقم لاحقا، يمثل أحد التفسيرات المحتملة لهذا التحول في ثروات تركيا منذ عام 2013، أو لماذا بدأ المواطن التركي العادي يزداد فقرا عند احتساب دخله بالدولار الأمريكي". القمع والعزلةصدم إردوغان الكثيرين عندما قمعت حكومته احتجاجات حديقة جيزي في 2013، ويوضح الأستاذ المساعد في علم الاجتماع بجامعة سابانجي، أتيس ألتينوردو "لقد خرجت الاحتجاجات كرد فعل على الاستبداد المتزايد من جانب حكومة حزب العدالة والتنمية كما أنها كانت حافزا للمزيد من التحركات... وقادت إردوغان إلى شن حرب شعواء ضد خصومه مستخدما فيها الجهاز الحكومي بأكمله".وأدت المحاولة الانقلابية التي نفذها عسكريون عام 2016 وحمّلت أنقرة المسؤولية عنها إلى رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، الذي نفى تورطه، إلى حالة طوارئ لا تعرف الرحمة، وقال ألتينوردو إنها "أماطت اللثام عن حكم الفرد المدعوم من فئة من المستشارين الخانعين المشكوك في أهليتهم"، مشيرا إلى أن "اتحاد هذه العوامل خلق وضعا سياسيا مثاليا لفشل اقتصادي".إلا أن ثمة جوانب مثل الرعاية الصحية والبنية التحتية والوصول إلى الأسواق لا تزال قوية بعد تحسنها بشكل كبير إثر تولي إردوغان منصبه عام 2003، مما دعم حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه للفوز بأكثر من 10 دورات انتخابية منذ ذلك الحين.وكتب سونر تشابتاي في كتابه الصادر عام 2021 بعنوان (سلطان في الخريف) أن "إردوغان يتمتع بقاعدة من المؤيدين المحبين والمخلصين (لأن) المواطنين تمتعوا بمستويات معيشية أفضل بكثير من... معظم فترات القرن العشرين"، موضحا أنه "قبل وصول إردوغان للسلطة كان معدل الوفيات بين الأطفال الرضع مشابها لما كان عليه الوضع في سوريا قبل الحرب، بينما يشبه حاليا معدل الوفيات في إسبانيا". انقسامات سياسية لكن على مدار العقد الماضي تفاقمت الانقسامات السياسية في أنحاء البلاد مع لجوء إردوغان لحلفاء قوميين لتأمين أغلبيات برلمانية، قبل أن يقتنص موافقة شعبية في استفتاء لاعتماد النظام الرئاسي الذي جمع خيوط السلطة في قصره.وانشق بعض المسؤولين الاقتصاديين البارزين عن حزب العدالة والتنمية معارضة منهم للاستئثار بالسلطات، ويرى محللون أن تصدعات بدأت تظهر لاحقا في سياسات الحزب بما في ذلك الضغط على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة رغم الأزمة التي تعرضت لها الليرة في 2018 وأواخر 2021.وقال محافظ البنك المركزي التركي السابق والأستاذ المشارك بجامعة وارتون، بولنت جولتكين "يتذكر الجميع حكومة إردوغان الأولى عندما كان يُنظر إليه على أنه يؤسس لاقتصاد شامل، لكنه في الواقع ترك قطاعات غير مسبوقة من المجتمع تعتمد بشكل كامل على الحكومة، وهو أمر غير مستدام". وتابع "إذا فاز إردوغان بالانتخابات وواصل سياسته الاقتصادية فإن الأمر سيصل لنقطة الانهيار التام عند مرحلة ما، الصورة شديدة القتامة... يمكنك أن تسوّف الأمور لفترة، لكن في نهاية المطاف عليك أن تدفع الفاتورة". (رويترز)