شملت تأثيرات حرب عزة، التي دخلت شهرها الرابع، المنطقة ككل في واقع مطابق للتوقّعات التي حذّرت من امتداد نيرانها إلى دول الجوار. ردّاً على الضربات الإسرائيلية لأهداف إيرانية في سوريا، كثّفت المجموعات المسلّحة التابعة لطهران من استهدافاتها للقواعد العسكرية الأميركية في كل من سوريا والعراق، واستمر "حزب الله" اللبناني في إشغال تل أبيب على الحدود الجنوبية للبنان، فيما نجح "الحوثيون" المدعومون من قبل إيران أيضا في تعطيل حركة الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر إلى حد كبير. وفي خضمّ هذا التصعيد الميداني، ظهرت ادّعاءات إعلامية تحدّثت عن نيّة أميركية للانسحاب من سوريا، بالتزامن مع بدء بغداد بالتفاوض مع واشنطن من أجل سحب الأخيرة لقوّاتها من الأراضي العراقية.البيت الأبيض نفى ادّعاءات الانسحاب في تقريرين منفصلين، لكن متقاطعين في المضمون والعلاقة بين المحررين، قال كل من موقع "المونيتور" ومجلة "فورين بوليسي"، نقلاً عن مصادر أميركية من وزارتي الدفاع والخارجية لم تكشف عن هويّاتها، إن البيت الأبيض يبحث إنهاء مهمة الجيش الأميركي في سوريا، التي باتت "غير ضرورية". وأرجع التقريران التقييم الأميركي الجديد إلى زيادة التوتّرات والأعمال العدائية في الشرق الأوسط ضد القوّات الأميركية على خلفية حرب إسرائيل على غزة بعد هجوم "حماس" في 7 أكتوبر، ما قد يدفع بإدارة بايدن إلى إعادة النظر في أولوياتها العسكرية في المنطقة خلال هذه المرحلة الإقليمية المعقّدة. وفي حين أكد كلا الكاتبين، الصحفيّة عنبرين زمان المختصة بملف الشرق الأوسط والقوقاز في "المونتور"، ومدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط تشارلز ليستر، أن الموضوع لا يزال في طور "التقييمات" وتبادل الآراء، دون اتّخاذ قرار نهائي بشأن الانسحاب، حذّرا في الوقت ذاته من "العواقب الكارثية" لمثل هذه الخطوة على المصالح الأميركية والوضع الأمني في المنطقة، وأنّها ستكون بمثابة هدية لتنظيم "داعش". بالعودة إلى السياق التاريخي للوجود الأميركي في سوريا خلال عقد من الزمن تقريباً، يمكن القول إن الحديث الأميركي عن سحب القوّات من سوريا ليس بالجديد، فالنقاشات الداخلية حول كيفية وتوقيت الانسحاب لم تتوقف يوماً داخل قبة مجلس الشيوخ وفي أروقة صنع القرار الأميركي في كل من البيت الأبيض والبنتاغون. في مارس الماضي، رفض مجلس النواب الأميركي بأغلبية الثلثين مشروع قرار تقدّم به السيناتور مات غايتس، ينص على سحب القوات الأميركية من سوريا خلال 6 أشهر، حيث أيدّه 103 نوّاب فقط رفض 321 آخرين. وفي ديسمبر الماضي أيضاً، رفض مجلس الشيوخ الأميركي بأغلبية 84 صوتاً مشروع قانون تقدم به السيناتور الجمهوري راند بول لانسحاب القوّات الأميركية من سوريا، والذي أيّده 13 سيناتوراً فقط. وعلى الفور، أصدر البيت الأبيض نفيا قاطعا للادّعاءات الإعلامية التي تحدّثت عن انسحابها، مؤكدة على عدم وجود أي نية لديها من هذا القبيل.الانسحاب الأميركي حتمي لكنه ليس وشيكاً منذ بدء حرب غزة، تعرّضت القواعد الأميركية في سوريا والعراق لأكثر من 150 هجوما تنوّعت وسائله بين الصواريخ والمسيّرات، وتم إطلاق معظمها من قبل الجماعات المسلّحة الموالية لإيران في العراق، كان أعنفها الهجوم الذي وقع الأحد الماضي، مستهدفاً موقعاً أميركياً على المثلث الحدودي السوري - الأردني - العراقي في التنف والمعروف باسم "البرج 22". أدّى الهجوم إلى مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة 34 آخرين، استوجبت حالة 8 منهم نقلهم إلى الأردن لتلقّي العلاج، ما وضع الرئيس الأميركي جو بايدن في حرج كبير على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية والمقرر إجراؤها في نهاية نوفمبر الماضي. توعّد الأميركيون وعلى رأسهم الرئيس بايدن، الذي يعيش فترة "البطّة العرجاء"، بالرد والانتقام من الهجوم، مؤكّدين في الوقت ذاته عدم نيّتهم في الدخول في حرب مع إيران، في استمرار للالتزام بالإستراتيجية الأميركية الثابتة منذ عقود. ويرى الكاتب والباحث في الشؤون السياسية د. أسامة دنّورة في حديث إلى منصة "المشهد" أن "الاستثمار الإستراتيجي للوجود العسكري الأميركي في سوريا غير واضح المعالم ومضطرب في الرؤية والحسابات الأميركية، لأن إيجاد بعد استراتيجي لهذا الوجود لكي يتم صرفها سياسياً ليس بالأمر السهل، خاصة أنّه غير شرعي وأتى بدون تفويض". ويضيف دنّورة أن "ازدياد مستوى الخسائر سيمثّل فرصة في الداخل الأميركي للتساؤل حول الجهة التي منحت التفويض لإبقاء القوّات الأميركية في سوريا وما هي المعايير التي تم إرسال هذه القوات على أساسها". ويشرح دنّورة أن "الضغوطات العسكرية والسياسية على القوّات الأميركية في العراق يهز أيضاً وجودها في سوريا، ويضعفها أكثر وأكثر". ويذكّر دنّورة بأن شركاء الولايات المتّحدة في سوريا، والمتمثلة بـ"قسد"، مرفوضة من قبل كل الأطراف في المنطقة سواء سوريا أم العراق أم تركيا أم إيران، وهو ما يعيق خطط واشنطن في المنطقة. وينهي دنّورة حديثه بالقول بأن "الانسحاب قادم لا محال ولكنه ليس وشيكاً، ولا ننسى بأن خطوة الانسحاب يمكن أن يستثمر انتخابياً ضد الجهة التي تقوم بالانسحاب، ومن الممكن أيضاً أن تستثمر لصالحها في حال أدريت اللعبة الإعلامية بطريقة صحيحة". لا معطيات عن الانسحاب من سوريابالنظر إلى المعطيات الحالية، فإن الأسباب المعلنة وغير المعلنة للوجود الأميركي في سوريا والعراق، لم تشهد تغييراً حتى الآن. تقول واشنطن بأن وجود قوّاتها في سوريا بشكل خاص يهدف إلى القضاء على "داعش"، وهو الهدف الذي لم يتحقق في ظل استمرار التنفيذ في تنفيذ الهجمات ضد أهداف للجيش السوري وحتى المدنيين في الصحراء السورية. أما الهدف الأكبر لأميركا في المنطقة، فهو قطع شريان الإمداد من إيران إلى كل من "حزب الله" في لبنان و"حماس" في غزة، وبالتالي فإن انسحابها من العراق وسوريا يعني فشل هذا الهدف الذي يندرج ضمن استراتيجية حماية إسرائيل الأميركية الثابتة. ويرى دنّورة أن "إسرائيل تعترض بشدّة على أي قرار أميركي بالانسحاب، لأن هذا الانسحاب يعني إزاحة عبئ كبير عن سوريا، وعودة الكثير من المقدّرات النفظية والزراعية إلى سيادة الدولة السورية، وبالتالي زيادة قوّتها، وهو مقدّمة للتعافي الكامل للدولة السورية، فضلاً عن الدور الذي يتحدّث عنه الجميع حول وجود القوات الأميركية كخط فصل إستراتيجي يقطع التواصل البري بين سوريا والعراق وإيران". تمركز القوّات الأميركية في منطقة غنيّة بحقول النفط والغاز في شرق سوريا، يمنع الحكومة السورية من الاستفادة من هذه الموارد كبديل عن العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الغربيون على دمشق على مراحل منذ بدء الحرب السورية. ويرى الباحث في المركز الكردي للدراسات ومقرّه ألمانيا، شورش درويش في تصريح إلى منصّة "المشهد" أنه "في الوقت الراهن لا توجد معطيات عن انسحاب وشيك، فقد عززت أحداث 7 أكتوبر مواقف الاتجاهات الداعية لبقاء القوات الأميركية في المنطقة". ويشرح درويش، أن "الوجود الكثيف لقطع البحرية الأميركية يتطلّب تواجداً موازياً على الأرض، ما يعني أن بقاء القوات في العراق، رغم التفاوض بين بغداد وواشنطن، وبقاءها في سوريا، سيكون بيد البنتاغون الذي يمتلك اليد العليا في رسم الإستراتيجيات العسكرية التي تعزز موقع واشنطن في التصعيد أو التهدئة لتطويق تنامي دور إيران في المنطقة". وأضاف "في حال جرى الاتفاق مع بغداد على الانسحاب أو إعادة الانتشار فمن الممكن أن تحافظ واشنطن على وجود في كردستان العراق، ذلك أن الكرد يفضّلون الوجود الأميركي الذي قد يحول من دون تدخل دول المنطقة في شؤونهم وبما يقطع الطريق على توّغل بغداد في صلاحيات الإقليم". وبحسب درويش "تبقى التكهّنات حول الانسحاب مرتبطة بدرجة أو أخرى بالانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ إن من شأن وصول الرئيس السابق دونالد ترامب تحفيز الخطاب الانعزالي القائم على الانسحاب من مناطق التوتر، لكن هذا الخطاب أيضاً قد يخضع لشد وجذب داخل الكونغرس والبنتاغون كما حصل عام 2019 بعيد إعلان ترامب الانسحاب التام من سوريا، ليتراجع عنه لصالح خطّة "وسطية" كان مفادها تقليل عدد القوات وتضييق نطاق الانتشار والتركيز على السيطرة على آبار النفط في شمال وشرقي سوريا".أنقرة تراقب تقارير الانسحاب عن كثب بالتزامن تتابع أنقرة المستجدّات الخاصة بادّعاءات الانسحاب الأميركي عن كثب، وهي التي خسرت 21 جندياً خلال مدّة 20 يوماً في هجمات لحزب "العمال الكردستاني"، والذي تعتبره التنظيم الأساسي لامتداد قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، الجناح العسكري للإدارة الذاتية التي يقودها الكرد في شمال وشرق سوريا. على خلفية التقارير الإعلامية المذكورة، أصدرت وزارة الدفاع التركية بياناً حول "مزاعم الانسحاب" قالت فيه إنّه "يجب التعامل مع مثل هذه الأخبار بحذر والاطّلاع على البيان الرسمي وتنفيذه، نحن نتابع عن كثب جميع التطورات في منطقتنا فيما يتعلق بقضايا الدفاع والأمن". وتشهد فترات الانتخابات في تركيا تزايداً في شهية أنقرة للعمليات العسكرية خارج حدودها، وهي التي تطالب منذ سنوات بإنشاء "منطقة عازلة" على طول حدودها الجنوبية من إدلب إلى إيران مروراً بالعراق، على طول 1300كم. وأعرب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن هذا الهدف بوضوح في خطاباته أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة، قائلاً: "سوف نتخذ خطوات لاستكمال العمل الذي بدأناه لإنشاء مناطق آمنة على عمق 30 كيلومتراً على طول حدودنا الجنوبية". خلال فترة رئاسته، قرر ترامب سحب قوّاته من سوريا، قبل أن يعدل عن قراره تحت ضغط الكونغرس الأميركي والمؤسستين العسكرية والأمنية، لكنّه منح تركيا الضوء الأخضر للقيام بعملية عسكرية برّية، كانت الأخيرة قبل وصول بايدن إلى الحكم وتغييره "لتأشيرة الدخول العسكري التركي" من التوغّل إلى الاستهدافات الجوية عن طريق المسيّرات. وتشارك القوات التركية في مهمة دوريات مشتركة مع الجنود الأميركيين في شرق الفرات ومع الجنود الروس في غربه. وتأمل أنقرة بأن تقترن أي خطوة انسحاب من جانب حليفتها في حلف شمال الأطلسي، أميركا، من سوريا بإتاحة المجال أمام الجيش التركي لتعبئة الفراغ في الشمال السوري على الأقل. في المقابل، فإن تفاصيل الخطة المعلنة في التقارير الإعلامية، والتي ربطت الانسحاب بشركة بين "قسد" والجيش السوري للقتال ضد "داعش" تزعج أنقرة، التي تطالب بالقضاء على الإدارة الذاتية وتوابعها السياسية والعسكرية بشكل كامل.وتحتفظ أميركا بقوات يقدّر عددها بـ900 جندي في سوريا، وقد أشارت تقارير إعلامية مؤخّراً إلى قيامها بتعزيز قوّاتها في القواعد السورية بأفراد جدد وآليات وعتاد تم استقدامها من القواعد الأميركية في أربيل. (المشهد)