"أسوأ شيء هو الاعتقاد أننا نحن الأوروبيون يجب أن نكون أتباعا حول مسألة تايوان وأن نتكيّف مع الإيقاع الأميركي ورد الفعل الصيني المبالغ فيه"، هكذا عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن موقفه اتجاه أزمة تايوان في الوقت الذي يُحذّر فيه المراقبون من أن تصبح بؤرة صراع جديدة في العالم. ماكرون الذي اختتم زيارة إلى الصين الجمعة الماضية برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية، دعا في مقابلة نشرتها صحيفة اقتصادية محلية، إلى أن يكون الاستقلال الاستراتيجي هو معركة أوروبا، قائلا: "سنصبح تابعين في حين أننا قادرون على أن نكون القطب الثالث إذا كان لدينا بضع سنوات لتأسيسه". وخلال الزيارة التي استمرت لمدة 3 أيام، تطرّق ماكرون مع نظيره الصيني شي جين بينغ إلى الوضع في تايوان. كما أخذ عهدا على الرئيس الصيني بالعمل من أجل مؤازرة كلّ الجهود الرامية لعودة السلام إلى أوكرانيا، وهذا ما تأمل إليه كل دول القارة العجوز التي تكافح الآثار الاقتصادية والأوضاع المعيشية الصعبة بفعل الحرب، إلى جانب الضغوط المالية الناتجة عن الاستعدادات العسكرية لاحتمالات توسع الصراع مع روسيا. وتعتبر الصين تايوان، البالغ عدد سكانها 23 مليون نسمة، جزءا لا يتجزّأ من أراضيها ولم تتمكّن بعد من إعادة توحيدها منذ نهاية الحرب الأهليّة الصينية في عام 1949، حيث يؤكد ذلك الكاتب الصحفي في مجموعة الصين للإعلام نادر روج خلال حديثه مع منصة "المشهد"، والذي قال إن "تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية وترمز إلى سيادة الوطن وكرامة الأمة، والصين لديها الحق في الدفاع وتحقيق التوحيد الكامل للبلاد".وانقسم المحللون الذين تحدثوا إلى منصة "المشهد" حول موقف فرنسا وأوروبا تجاه سياسات الولايات المتحدة في المستقبل استنادا إلى ما قاله الرئيس الفرنسي قبل أيام، إذ يعتبر فريق منهم أن فرنسا وأوروبا ككل بدأت تُدرك مخاطر وتبعات الانسياق وراء السياسات الأميركية، بينما يرى الفريق الآخر أن الأوروبيين لديهم اهتمام بتايوان ولا يرغبون في استيلاء الصين على الجزيرة بالقوة العسكرية، مستبعدين أن يكون هناك تقارب سياسي بين الصين وأوروبا على حساب العلاقات مع أميركا. ليس موقفا موحدا في أعقاب الحرب العالمية الثانية ارتبطت الولايات المتحدة بعلاقات متجذرة وقوية مع دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة الدب الروسي خلال ما سمي بالحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة، وكذلك مشاركة أوروبا الإدارات الأميركية في الصراعات والنزاعات في مختلف أنحاء العالم تحت قيادة حلف شمال الأطلس "الناتو" الذي يضم 31 دولة جميعهم من القارة الأوروبية باستثناء كندا والولايات المتحدة. أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس خطار أبو دياب يرى أن تصريحات الرئيس الفرنسي لا تعبر عن قرار أو موقف أوروبي موحد، خصوصا أن هناك تعقيدات فيما يتعلق بالقرارات الأوروبية المشتركة، مشيرا إلى أن ماكرون أبدى تفهمه بشأن أهمية العلاقات مع الصين والنظر إليها بشكل مختلف، لاستقطابها بعيدا عن روسيا. واستبعد أبو دياب في حديثه مع منصة "المشهد"، أن يكون ما أدلى به الرئيس الفرنسي هو بمثابة إعلان عن موقف أوروبي جديد محاولة للوصول إلى الاستقلال، قائلا إن "أميركا تعد مظلة استراتيجية وأمنية لأوروبا حيث تنشر مئات الآلاف من الجنود في القارة لحماية المصالح المشتركة، كما ترتبط بعلاقات اقتصادية متجذرة". وتابع: "ماكرون يريد أن يحمل لواء الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، لكن هذا أمر صعب".وإلى جانب مجموع الرؤوس الحربية النووية التي تنشرها أميركا في أوروبا والبالغ عددها 100 رأس حربي، يوجد أكثر من 100 ألف جندي أميركي منتشر في جميع أنحاء أوروبا. كبير الباحثين في معهد هادسون للتحليل العسكري في واشنطن ريتشارد ويتز اتفق مع ما قاله أبو دياب، مؤكدا في حديثه مع منصة "المشهد" أنه على الرغم من أن بعض الأوروبيين يعطون الأولوية للعلاقات مع بكين على تايبيه، فإن العديد منهم يهتم بتايوان ولا يريدون أن تستخدم بكين القوة العسكرية للاستيلاء على الجزيرة". ويضيف ويتز: "يُدرك الأوروبيون أنهم إذا اتبعوا ماكرون، فيمكن للكثيرين في الولايات المتحدة تطبيق نفس المنطق على أوروبا(..) فإذا رفض الأوروبيون الوقوف إلى جانب واشنطن ضد بكين فلن تقف واشنطن إلى جانبهم ضد روسيا، لذا فإن تصريحات ماكرون لا تعكس بأي حال من الأحوال وجهة نظر أوروبية مشتركة".لا تخلي رغم الخلافاتمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تلعب الولايات المتحدة دورا كبيرا في دعم كييف عسكريا واقتصاديا في مواجهة موسكو، حيث يقدر معهد كيل الألماني للألماني حجم المساعدات العسكرية الإنسانية والاقتصادية الأميركية بنحو 71.3 مليار يورو (77.39 مليار دولار) منذ اندلاع الحرب وحتى 24 فبراير 2023، وهو أكثر من حجم مساعدات الدول والمؤسسات الأوروبية البالغة 61.9 مليار يورو (67.19 مليار دولار).بدروه يعتبر المحلل السياسي المقيم في باريس رامي الخليفة العلي أن تصريحات ماكرون لا تعني تخلي أوروبا عن الولايات المتحدة الأميركية، خصوصا أنها ملتزمة بالتحالف مع أميركا في إطار حلف شمال الأطلسي، مشيرا إلى أن هناك خلافات أميركية فرنسية خصوصا بعد أزمة صفقة الغواصات مع أستراليا. وأعلنت أستراليا بشكل مفاجئ التخلي عن صفقة شراء غواصات حربية من باريس بقيمة 35 مليار يورو، واستبدلتها بصفقة غواصات تعمل بالطاقة النووية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، في خطوة أغضبت باريس، قبل أن تقرر سيدني دفع تسوية بقيمة 555 مليون يورو لصالح مجموعة نافال الفرنسية كتعويض على إنهاء العقد. ويضيف العلي: "التصريحات التي تدعو إلى استقلال أوروبا تشير إلى رغبة، ولكن رغبة تنقصها الإرادة من كافة الدول الأوروبية وتنقصها الوسائل والإمكانات التي لا تملكها الدول الأوروبية في الوقت الراهن، نظرا إلى أنها غير قادرة حتى على الدفاع عن أمنها أو ضمان متطلباتها من المعدات العسكرية".وتابع: "أوروبا تعتقد حاليا أن الصين يمكن أن يكون لها دور في الضغط أو إقناع الجانب الروسي لإنهاء الصراع في أوكرانيا، خصوصا أن بكين قد تلعب دور في هذا كون أنها تريد أن تظهر كصانع سلام"، مشيرا إلى أن أوروبا تريد إبقاء علاقاتها الاقتصادية القوية مع الصين كما هي بما فيه منفعة لدول الاتحاد دون الابتعاد عن القضايا الشائكة بين الصين وأميركا. ويدافع كبير الباحثين في معهد هادسون للتحليل العسكري في واشنطن عن سياسات بلاده في التعامل مع ملف جزيرة تايوان والذي يعتبره بعض الأوروبيين متناقضا، إذ يقول: "الولايات المتحدة تحاول تحقيق التوازن بين هدفين، الأول الوقوف بحزم لردع هجوم الصين دون استفزازها بدرجة كبيرة لشن ذلك الهجوم (..) والثاني هو تقديم الكثير من الدعم يمكن أن يؤدي بتايوان إلى التصرف بتهور في حين أن عدم الحزم الكافي قد يدفع بكين إلى الهجوم، كما هو الحال مع روسيا في أوكرانيا".إدراك مخاطر التبعيةأدرك الأوروبيون مخاطر التبعية والانسياق وراء السياسات الأميركية، بحسب ما يقول خبير العلاقات الدولية والشؤون الأميركية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة أحمد سيد أحمد، والذي يضيف لمنصة "المشهد" أن "الأوروبيين وفرنسا بالتحديد دفعوا الثمن باهظا عندما انجروا وراء الموقف الأميركي في تأجيج الصراع بأوكرانيا والتي أثرت على اقتصادات القارة". ويضيف أحمد: "أوروبا تُدرك الآن أن خصوم أميركا الاستراتيجيين ليسوا خصوما لها(..) وزيارة ماكرون إلى الصين أتت في إطار السعي نحو استقلال السياسة الفرنسية والأوروبية عن أميركا فيما يتعلق بالصين، والتي تنظر إليها واشنطن باعتبارها خصم استراتيجي (..) لأنه في حال اشتعال الصراع في تايوان سيؤثر ذلك سلبا أيضا على الاقتصاد العالمي ودول أوروبا خصوصا والتي تربطها علاقات اقتصادية وتجارية ضخمة مع بكين". وتابع بالقول: "يجب أن نفهم من تصريحات ماكرون أنه من الخطأ أن تتبع أوروبا سياسات أميركا تجاه بكين وتستخدم حلف اتجاه الأطلسي في مواجهة منافسيها كما تستخدمه ضد روسيا". ووفق بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي "يوروستات"، كانت الصين ثاني أكبر شريك تجاري لدول الاتحاد الأوروبي خلال عام 2022، بحجم تبادل تجاري بلغ نحو 856.3 مليار دولار، وذلك بعد الولايات المتحدة التي بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين أوروبا نحو 867.7 مليار دولار. بدوره، يرى الكاتب الصحفي في مجموعة الصين للإعلام نادر روج أن أوروبا ليس لديها خلافات جذرية مع الصين، بل هناك تعاون وتبادلات تجارية مكثفة بما يخدم مصالح الجانبين، ويوسع التعاون، مضيفا: "هذا يتفق مع مصالح جميع الدول والشعوب الأوروبية وكذلك أيضا الصين". ويضيف روج: "أوروبا لا تريد التورط في هذه الأزمة وأعتقد أن تصريحات الرئيس الفرنسي أوضحت الموقف الأوروبي تجاه أزمة تايوان. وبالتالي أي مواجهة بين الولايات المتحدة والصين، فأوروبا لن تميل إلى أي طرف أو التورط في هذه الأزمة". على النقيض يستبعد رامي الخليفة العلي أن تقيم دول أوروبا علاقات سياسية مع الصين، حيث يقول المحلل السياسي المقيم في باريس: "صحيح من الناحية الاقتصادية هنالك علاقات بين بكين وأوروبا، لكن سياسيا لا يمكن أن ترتبط أوروبا التي هي تشكل حلف شمال الأطلسي وشريك الولايات المتحدة الرئيسي، بأي علاقات مع الصين". ويضيف العلي: "لا يمكن أن تؤثر العلاقات الصينية الأوروبية على العلاقات الأوروبية الأميركية بأي حال من الأحوال(..) لا بل هناك ما هو أبعد من ذلك، فإذا دخلت الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة مباشرة مع الصين، فإن أوروبا لن تستطيع أن تأخذ موقفا حياديا، وسوف تكون مجبره على السير في ركب أميركا كما هو الحال في الحرب الأوكرانية، وبالتالي أعتقد أننا بعيدون عن مسألة افتراض أن يكون هناك تقارب أوروبي صيني".(المشهد)