أكثر من نصف سكان هذا البلد الذي يبلغ تعداده 50 مليون نسمة يعانون من الجوع الشديد، وتشير التقديرات إلى أن المئات يموتون من الجوع والأمراض المرتبطة به كل يوم.لكن المساعدات الدولية المنقذة للحياة، مثل زيت الطهي والملح والحبوب والعدس وغير ذلك، لا تصل إلى ملايين هم في أمس الحاجة إليها. ومن بين هؤلاء راعوس فليج، وهي أم لتسعة أطفال تبلغ من العمر 39 عامًا.وتعيش راعوس في مخيم مترامي الأطراف للنازحين في منطقة بُرام بولاية جنوب كردفان، حيث نزحت فراراً من القتال الذي أشعله اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية.ومنذ حطت الرحال في المخيم قبل 9 أشهر، لم تصل مساعدات الأمم المتحدة الغذائية إلا مرة واحدة، في مايو أيار. وقالت إنّ حصة أسرتها نفدت في غضون عشرة أيام. ويقع المخيم، الذي يقطنه ما يقدر بنحو 50 ألف شخص، في منطقة يديرها متمردون محليون يسيطرون على نحو نصف الولاية. ويقول مسؤولون في مجال الإغاثة إنّ الجيش السوداني لا يسمح بوصول معظم المساعدات إلى المنطقة لأنه يمنع عبورها من مناطق سيطرته.لذلك، بعد فجر كل يوم، تقطع راعوس وغيرها من نساء المخيم اللاتي تظهر عليهن علامات الهزال رحلة تستغرق ساعتين إلى أحراش قريبة لجمع أوراق الشجر. وفي إحدى المرات، تناول عدد منهن الأوراق الجافة لسد جوعهن. وعند العودة إلى المخيم، طهت النساء الأوراق مع بذور التمر الهندي لتخفيف مرارة طعمها.وبالنسبة لراعوس وآلاف أخريات في المخيم، فهذه العصيدة هي الوجبة الأساسية. ولكنها لا تكفي لسد الرمق. ويقول الأطباء في المخيم إنّ بعضهن مات جوعا. وكانت والدة راعوس واحدة منهن.وقالت راعوس "جئت إلى هنا ولم أجد شيئًا أتناوله. هناك أيام لا أعرف فيها ما إذا كنت على قيد الحياة أم ميتة"."مرحلة حاسمة"والسودان مثال صارخ لما يحدث عندما تتعطل المرحلة الأخيرة الحاسمة في هذا النظام المتشابك، وهي تسليم الغذاء إلى الجوعى. ويكشف هذا عن فرضية هشة يقوم عليها النظام وهي أن الحكومات في البلدان التي تعاني من المجاعة سوف ترحب بالمساعدات.وفي بعض الأحيان، في السودان وأماكن أخرى، تمنع الحكومات والأطراف المتحاربة جميع مقدمي المساعدات الأساسيين، بما في ذلك برنامج الأغذية العالمي وهو الذراع الرئيسية للأمم المتحدة للإغاثة الغذائية، من توصيل الطعام للجوعى. وفي بعض الأحيان تكون هذه المنظمات عاجزة أو خائفة من التحرك ضد هذا المنع.في أغسطس، ذكر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو آلية رائدة لمراقبة الجوع في العالم، أن الحرب في السودان والقيود المفروضة على تسليم المساعدات تسببت في مجاعة في مكان واحد على الأقل، في ولاية شمال دارفور، وأن مناطق أخرى من البلاد قد تعاني من المجاعة.في وقت سابق، أعلن التصنيف أن 9 ملايين شخص، أيّ ما يقرب من خمس سكان السودان، يعيشون في حالة طوارئ غذائية أو أسوأ، وهذا يعني أن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية لإنقاذ الأرواح.كانت هذه هي المرة الرابعة فقط التي يصدر فيها التصنيف تقريرًا عن حدوث مجاعة منذ إنشائه قبل 20 عامًا، لكن رغم التحذيرات الشديدة التي أطلقها هذا العام، فإن الغالبية العظمى من السودانيين الذين يحتاجون بشدة إلى مساعدات غذائية لا يحصلون عليها.وقال كريستوس كريستو رئيس منظمة أطباء بلا حدود، التي تعمل في دارفور، إنّ أجزاء من السودان أصبحت بلا أيّ مساعدات إنسانية وإنّ الأمم المتحدة "في سبات".ارتفاع عدد الوفيات في هذه الأثناء يموت الناس. وجد تحليل أجرته "رويترز" لصور الأقمار الصناعية أنّ المقابر في دارفور تتوسع بسرعة مع تفشي المجاعة والأمراض المصاحبة لها.وقال وزير الشؤون الإفريقية البريطاني راي كولينز للبرلمان هذا الشهر إنّ أكثر من 100 شخص يموتون يوميًا بسبب الجوع.ويجري توزيع المساعدات على نطاق أوسع بكثير في المناطق التي يسيطر عليها الجيش. لكنّ موظفين في مجال الإغاثة يقولون إنّ الجيش لا يريد أن تقع المواد الغذائية في يد القوات المعاديّة في المناطق التي لا يهيمن عليها ويستخدم تكتيكات التجويع ضد المدنيّين لزعزعة استقرار هذه المناطق.وتمنع الحكومة المدعومة من الجيش، والتي تتخذ من بورتسودان مقرًا لها، تسليم المساعدات من خلال رفض أو تأخير تصاريح السفر والموافقات، مما يجعل من الصعب الوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها طرف مناوئ.وفي محاضر اجتماعات داخلية اطلعت عليها "رويترز"، ذكر منسقو لوجستيات تابعون للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية على مدى 4 أشهر متتالية من مايو إلى أغسطس، أنّ السلطات السودانية ترفض إصدار تصاريح سفر لقوافل المساعدات إلى أماكن في جنوب كردفان ودارفور.وقال عشرات من موظفي الإغاثة لـ"رويترز" إن تردد الأمم المتحدة في مواجهة حكومة السودان بشأن حجب المساعدات جعلها أسيرة لقرارات الحكومة.وقالت ماتيلد فو مديرة المناصرة لدى المجلس النرويجي للاجئين في السودان "الأمم المتحدة مترددة جدا وتنقصها الشجاعة في كشف العرقلة المتعمدة لوصول المساعدات في هذا البلد".وأشار أربعة مسؤولين في الأمم المتحدة، طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، إلى أنهم يخشون إذا تحدوا الجيش، أن يتم طرد عمال الإغاثة والوكالات الإنسانية من السودان. ويستشهدون بعام 2009، عندما طرد الرئيس السابق عمر البشير 13 منظمة إغاثة غير حكومية بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب."قتلها الجوع"قبل الحرب، بلغ عدد سكان جنوب كردفان نحو مليوني نسمة، وتزايدت الحاجة إلى المساعدات الخارجية مع تدفق نحو 700 ألف نازح إلى المخيمات والمدن في مناطق خاضعة لسيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال منذ اندلاع الحرب.وكانت مخزونات الغذاء في الولاية منخفضة بالفعل قبل الحرب، والجراد الذي التهم المحاصيل فاقم مشكلة ضعف الحصاد عام 2023. وزادت الحرب وتدفق اللاجئين الأمور سوءًا.وفي المناطق التي زارتها رويترز، كان الجوع والمرض في كل مكان. وفي مخيم بمحلية أم دورين في ولاية جنوب كردفان يقطنه نحو 50 ألف شخص، كان الأطفال يموتون من سوء التغذية والإسهال على مدى العام الماضي، حسبما قال عبد العزيز عثمان وهو زعيم محلي بالمنطقة.ويرى العاملون في مجال التغذية في مركز علاجي بالمخيم 50 حالة شهريًا من الأطفال والأمهات الذين يعانون من سوء التغذية، وقبل الحرب، كان الفريق الطبي يعالج ما بين خمس إلى عشر حالات من سوء التغذية شهريًا في المنطقة بأكملها.وفي مخيم في بلدة بُرام، وقف أطفال صغار، ببطون منتفخة وأذرع نحيلة، خارج أكواخ مصنوعة من العصي والبلاستيك والأقمشة نهبًا للمطر والأفاعى والعقارب."يا ريتني مت" مع تفشي الجوع في ولاية جنوب كردفان، تضطر الأمهات إلى اتخاذ خيارات مؤلمة.فكان على روضة تيا أن تقرر من الذي ستأخذه معها ومن ستتركه من أبنائها الـ14 عندما تفر من كادقلي عاصمة الولاية. وقالت إنّ الأسرة ظلت تعيش على مدى شهور على عصيدة مصنوعة من أوراق الشجر والدقيق. وكان أولادها يتسولون في السوق للحصول على الدقيق.وقررت المغادرة بعدما استبد الضعف بالصغار واحتدم القتال. واصطحبت معها في يونيو حزيران 3 من أطفالها وتركت الباقين، ومن بينهم ابنان أكبر سنًا يبلغان من العمر 16 و18 عامًا. ولا تعرف شيئًا عن مصيرهما.وقالت مبررة قرارها "ماذا أفعل؟... إنه الجوع".عبروا جبال النوبة سيرًا على الأقدام بعد مغادرتهم كادقلي. وسقط ابنها خليل (12 عامًا) المنهك من الجوع واصطدم بشدة بصخرة غير أنه استطاع النهوض واستكمل السير.(رويترز)