أحيا فوز الرئيس الإصلاحي مسعود بزشيكيان بالتزامن مع المستجدّات التي فرضتها حرب أوكرانيا ومن ثم غزّة على الساحة الدولية بشكل متقاطع مع الانتخابات الرئاسية الأميركية، آمال إحياء الاتّفاق النووي إيرانياً، بعد سنوات من التعثّر منذ التوقيع على نسخته الأولى قبل 9 أعوام.على الرغم من الرد الأميركي السريع على إشارات طهران الإيجابية بالنفي، إلا أن سياسات ضبط النفس والالتزام "بقواعد الاشتباك" التي اتّبعتها إيران في أعقاب حرب غزّة وتطوّراتها، تعزز من احتمالات عودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، خصوصاً مع احتمالية وصول السيدة الديمقراطية كمالا هاريس إلى البيت الأبيض.إشارات إيجابية من طهران بفتوى سياسية، أعطى المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، الضوء الأخضر لحكومة البلاد لفتح باب الحوار مجدداً مع الولايات المتّحدة والانخراط في مفاوضات بشأن البرنامج النووي، قائلاً في تصريحاته الأخيرة، إنه "لا ضرر" من الانخراط في التفاوض مع "العدو" الأميركي، شريطة "توخي الحذر وعدم الثقة الكاملة" في نوايا واشنطن. يعزى هذا التحوّل في الموقف الإيراني جزئياً إلى انتخاب الرئيس مسعود بزشكيان، الذي استندت حملته الانتخابية على وعد استعادة الاتفاق النووي لتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد، في وقت تشهد فيه المنطقة توترات متصاعدة، بين إسرائيل والقوى العسكرية الموالية لإيران، على خلفية الحرب المستمرة في غزّة واغتيال زعيم "حماس" خلال وجوده في ضيافة طهران. عاد العديد من المسؤولين الإيرانيين الذين شاركوا في الاتفاق النووي لعام 2015 إلى السلطة تحت إدارة بزشكيان، ما قد يسهم في رفع آمال التيار الداعم للتفاوض ويزيد من استعداد الجانب الإيراني على إظهار مرونة أكبر في التعامل مع القوى الغربية. ويرى الباحث والخبير السياسي عامر السبايلة أنه "في حال احتواء المواجهة الإقليمية لا بد من مكتسبات سياسية". ويقول السبايلة في حديثه إلى منصة "المشهد" إن "طهران تراهن على هذه الجزئية، خصوصاً أنها ممكنة جدًا مع إدارة بايدن، وبالتالي هناك رهان على التكتيك السياسي الإيراني بأن يضمن لإيران مكتسبات تكون بوابتها الاتفاق النووي الذي هو بوابة طهران أيضاً للدخول إلى المجتمع الدولي".نسخة جديدة من الاتّفاق يجادل وزير الخارجية الإيراني الجديد، عباس عراقجي، بأن اتّفاق عام 2015 يحتاج إلى مراجعة بسبب البنود المنتهية وتغيّر الظروف العالمية. في عام 2015 توصّلت إيران إلى اتّفاق مع الولايات المتّحدة والأطراف الدولية الفاعلة، عرف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، نصّ على فرض قيود صارمة على برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية. رأى الغرب في الاتّفاق أداة فعّالة لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية وتقليل فرص نشوب نزاع في الشرق الأوسط، حيث تعهّدت إيران بتقييد أنشطتها النووية، بما في ذلك عمليات تخصيب اليورانيوم وإنتاج البلوتونيوم، والسماح بعمليات تفتيش دولية مكثّفة لضمان التزامها بالشروط المنصوص عليها. من الناحية الاقتصادية، كان للخطة تأثير إيجابي على الاقتصاد الإيراني. فقد أدت إلى زيادة صادرات النفط وتعزيز التجارة الخارجية للبلاد، إلا أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في عام 2018 ورد فعل إيران على الخطوة الأميركية قوّض من نتائجها. عادت واشنطن وفرضت عقوبات على إيران ملحقة أضراراً كبيرة باقتصادها، لترد عليها طهران بدءاً من عام 2020 برفع معدّلات تخصيب اليورانيوم، وتوسيع قدرتها على تشغيل أجهزة الطرد المركزي المتقدمة والاحتفاظ بكميات كبيرة من اليورانيوم المخصب في منشآت محصّنة. يعتقد المحلل السياسي الإيراني وجدان عبد الرحمن أن "موضوع إحياء الاتفاق النووي بات صعباً اليوم. إيران الآن تجاوزت عتبة التخصيب بنسبة 20% وهذا يعد أكبر خرق للاتفاقية النووية، ولا يمكن العودة إلى الوراء في هذا الموضوع". في تقريرها الأخير حذّرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) من تطوير إيران المستمر لبرنامجها النووي، وصولاً إلى مستويات من مخزون اليورانيوم المخصب قريبة من درجة التخصيب المستخدمة في تصنيع الأسلحة. وقالت الوكالة إن "إيران زادت مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى 363.1 رطلاً، بزيادة قدرها 49.8 رطلاً منذ مايو، مقتربة من مستويات نقاء تصل إلى 90% المطلوبة لتصنيع الأسلحة، بالإضافة إلى تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً لتسريع عمليات تخصيب اليورانيوم. كما اتّهمت الوكالة طهران بعدم إعطاء إجابات حول أصل وموقع جزيئات اليورانيوم التي تم العثور عليها في موقعين إيرانيين غير معلنين، وبمنع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من مراقبة برنامجها النووي، في وقت لا تزال كاميرات الوكالة معطلة.الرد الأميركي مؤجلالإشارات الإيرانية قوبلت من قبل واشنطن بالنفي، إذ أفاد متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية أن إحياء الاتفاق النووي "غير مطروح" على جدول أعمال الإدارة الحالية. تؤكد الولايات المتحدة التزامها بمنع إيران من تطوير سلاح نووي، مشددة على استخدام "جميع عناصر القوّة" لتحقيق هذا الهدف، مع التأكيد على أن "الدبلوماسية تُعتبر أفضل طريق لحل مستدام". تبرز الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في نوفمبر كعامل مهم ومؤثر على مسار العلاقات بين طهران وواشنطن، وتحدد نتائجها شكل السياسة الأميركية تجاه إيران خلال السنوات المقبلة. أعرب المسؤول السابق في إدارة أوباما، جويل روبين، عن اعتقاده بأن نائبة الرئيس كامالا هاريس ستسعى إلى إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران إذا فازت برئاسة الولايات المتحدة في الانتخابات المقبلة. روبين، الذي لعب دوراً رئيسياً في التفاوض على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) وتنفيذها في عام 2015، وأشار إلى أن هاريس أعلنت سابقاً عن دعمها للعودة إلى الاتفاق خلال حملتها لرئاسة بايدن عام 2020. مع ذلك، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت تحتفظ بهذا الموقف في برنامج حملتها لعام 2024، خاصة في ظل تغير المشهد الجيوسياسي وزيادة العدوانية من قبل إيران. يقول الخبير الإيراني عبد الرحمن في حديثه إلى "المشهد" إن "وصول الديمقراطيين بالطبع سيسهل على النظام الإيراني أكثر مقارنة مع فوز الجمهوريين"، مشيراً إلى أن "أساس المشكلة في الاتفاقية النووية هي الولايات المتحدة، بمعنى بقاء الـ 4+1 مع إيران لن يفيد النظام الإيراني ولا يفيد الدول الموقّعة على الاتفاق من دون وجود الولايات المتحدة". وعلى الرغم من اعتبار الاتفاق النووي في حينه إنجازاً دبلوماسياً هاماً من قبل إدارة أوباما، إلا أنّه واجه انتقادات كبيرة من الجمهوريين وبعض الديمقراطيين، الذين شككوا في فاعليّته لجهة "كبح الطموحات النووية لإيران بشكل كاف". مع وصول الرئيس الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أعلنت الإدارة الأميركية في عام 2018 انسحابها من الاتفاق، ما يضعف احتمالات تجدد محادثات الاتّفاق النووي في حال فوز ترامب بولاية ثانية. في المقابل، قد يشكّل سعي هاريس لاتفاق نووي جديد مع إيران إستراتيجيتها العامة في السياسة الأميركية الخارجية الخاصة بالشرق الأوسط.تحدّيات التوصّل إلى اتفاق جديد حتى مع التسليم بصدق نوايا الأطراف في الوصول إلى اتّفاق جديد، إلا أن التحديات التي ستواجه المفاوضات ستكون كبيرة ومعقّدة، وفي الوقت نفسه مرتبطة بمساعي إيجاد حلول للتوترات الإقليمية في ظل انعدام الثقة بين إيران والغرب. ففي حين ترى الأطراف الغربية بأن "خطة العمل الشاملة المشتركة 2"، يجب أن تركز على عمليات تفتيش طويلة الأجل وتخفيف المواد النووية والإشراف المكثف على إمكانية التسلح النووي، بدلاً من تقييد قدرات إيران على التخصيب فقط، فيما من المرجّح أن تزيد إيران من مستوى الحذر خلال المفاوضات، مطالبة بشروط تضمن تجنّب تكرار الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي كما حصل سابقاً. ووفق سبايلة فإن "الاتّفاق النووي وعودة إيران إلى المجتمع الدولي شكّل الأساس الذي بنيت عليه العلاقة مع طهران قبل أن تنتقل إلى فكرة تطبيع العلاقات معها ورفع العقوبات عنها. وبالتالي لا بد أن تكون نقطة الاتفاق النووي دائما هي نقطة الأساس في الانطلاق في علاقة بين إيران والغرب". على الرغم من آمال التفاوض المعاد إحياؤها إيرانياً، فإن القضايا الأساسية المتعلّقة بالثقة وطموحات إيران النووية والديناميات الإقليمية تشكّل تحدّيات كبيرة أمام احتمال التوصل إلى حل غير مؤكد وسط تصارع المصالح الجيوسياسية للأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالاتّفاق المنشود. (المشهد)