شهد العقد الأخير زيادة في ظاهرة الهجرة، على اختلاف مسمياتها وأنواعها، الشرعية، غير الشرعية، العقول، وذلك لأسباب عديدة أبرزها الحروب والصراعات، أكد ذلك تقرير اللجنة الدولية للهجرة GCIM الذي أشار إلى أن عدد المهاجرين في العالم وصل في الوقت الحاضر إلى 200 مليون نسمة مقابل 75 مليوناً قبل 30 عاما. يلوم السياسيون ورجال الأعمال حول العالم المهاجرين، وفي بعض الدول يُطالبونهم بالعودة إلى بلادهم، بل يرغبون في ترحيلهم قسرا، لكن دائما ما يتناسى بعضهم أن السبب الرئيسي في الصراعات هو سياساتهم، في وقت أصبح فيه اللاجئون على اختلاف جنسياتهم، ورقة تتقاذفها دول وتشتغلها أخرى للضغط والتفاوض. كعادته، أقحم الملياردير إيلون ماسك نفسه في مواضيع خارج نطاق المال والأعمال، مهاجما طريقة تعامل الحكومة الألمانية مع الهجرة غير الشرعية، معرباً عن دعمه حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف.وقبلها بأيام، انتقد ماسك أيضا فتح الإدارة الأميركية لحدودها الجنوبية مع المكسيك، مُطالبا بتشديد الرقابة على الحدود ووضع حد لتدفقات مئات آلاف الفنزوليين.وأمس السبت، شهدت باريس تظاهرات مندّدة بمشروع قانون الهجرة الجديد، وقال محتجون إن قانون الهجرة الجديد يعقّد تسوية الوضعية القانونية للمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين في فرنسا ويُسهّل ترحيلهم.فلماذا يشهد العالم حركات نزوح ولجوء وهجرة غير مسبوقة؟ ولماذا تزيد قوانين الهجرة المشدّدة من أعداد المهاجرين؟ أسباب الهجرة بداية، تعد الهجرة ظاهرة اجتماعية قديمة، تمتد جذورها إلى بداية التاريخ البشري، لكن باتت هذه الظاهرة اليوم تأخذ زخما غير مسبوق، وأصبحت تحصل بطرق لم نعتاد عليها، مثل الهجرة عبر البحار، أو حتى مشيا على الأقدام لأيام وأسابيع، ما يشي إلى إصرار طالبي اللجوء بالتخلص من الظروف المحيطة بهم، باحثين عن حياة أفضل لهم ولأبنائهم. طوال الأعوام الماضية، كانت الصراعات والحروب التي رافقت ما يسمى "الربيع العربي" السبب الرئيسي للهجرة، يضاف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية التي تبعت هذه الحروب. كما أن عمليات التطهير العرقي التي حصلت دفعت عددا كبير ا من الأقليات الدينية والعرقية إلى الهجرة. أبرز مثال على ذلك، عمليات التطهير التي قام فيها تنظيم داعش بحق الإيزيديين في العراق. لكن هذه الأسباب لسيت وحدها التي تسببت بالهجرة، بل إن سهولة الهجرة والمقابل المادي في كثير من الأحيان لعب دورا كبيرا. تزامن ذلك مع فتح دول عدة أبوابها أمام المهاجرين، مُهيئة لهم ظروف معيشية ممتازة مقارنة مع الظروف في بلادهم. لا تؤثر الهجرة سلبا فقط على الدول التي تستقبل اللاجئين، بل إن بلادهم تفقد المبدعين وأصحاب الخبرات، خصوصا وأن عددا كبيرا من هؤلاء هم من أصحاب العقول. ويمثّل عدد المهاجرين في قارتَي أوروبا وآسيا 61% من إجمالي عدد المهاجرين في العالم، مع نحو 87 مليوناً في أوروبا و86 مليوناً في آسيا، فيما وتحلّ أميركا الشمالية بعد أوروبا وآسيا في استقبال المهاجرين، مع 20.9% من مجموع هؤلاء، تليها أفريقيا مع نحو 9%، ثمّ أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي وأوقيانوسيا.أزمة لامبيدوزاوفي هذا السياق يقول المحلل السياسي مصطفى الطوسة في حديث لمنصة المشهد إن "صور مشاهد قوارب المهاجرين الكثيرة وهي تنهال على الجزيرة الإيطالية لامبيدوزا شكلت صدمة قوية للرأي العام الأوروبي، إذ لأول مرة تجسد في مخيلته نظرية الزحف الجماعي الذي لطالما تنبأت به بعض القوى السياسية التي بنت مجدها الانتخابي عبر الترويج لنظرية الاستبدال الكبير الذي سيأتي من أفريقيا ويستوطن في الفضاءات الأوروبية". ويُضيف الطوسة "قد تسببت هذه التطورات في تحرك أوروبي عاجل إذ سارعت رئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فان دير لاين إلى زيارة جزيرة لامبيدوزا صحبة رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني في خطوة يُراد منها التعبير عن تضامن أوروبي مع المحن التي تمرّ بها السلطات الإيطالية". بدوره، يشير الخبير في شؤون الهجرة واللاجئين أحمد سعدون في تصريحه إلى "المشهد" أن "أسباب الهجرة مختلفة مثل الحروب والكوارث البيئية التي تحصل دفعت بالشباب والعوائل إلى مغادرة بلادهم، بذات الوقت دول الاتحاد الأوروبي تتحمل عبئاً كبيراً من هذه الظروف التي تحصل، حيث إن ميركل دخلت التاريخ عندما استقبلت حوالي مليون لاجئ من الشرق الأوسط، وأعطتهم ما يسمى بالإقامة المشروطة". التغير المناخي والكوارث البيئية والأوبئة تلعب دورا بالهجرة لكن بتأثير أقل من الحروب، وبحسب سعدون "اليوم هناك أزمة هجرة جديدة من ليبيا، إذ يوجد نحو 15 ألف ليبي في جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، وذلك بعد الفيضانات التي حصلت في درنة، وبسبب عدم حدوث رقابة قانونية وأمنية في السواحل البحرية للبحر الأبيض المتوسط". ألمانيا النموذج الأبرزعلى مدار الأعوام الماضية التي برزت فيها ظاهرة الهجرة بشكل كبير، استقبلت ألمانيا عدداً كبيراً من المهاجرين، مقارنة مع نظرائها الأوروبيين، وقد سجلت ألمانيا في صندوق الأمم المتحدة للسكان كثالث أكثر الدول في العالم استقبال للمهاجرين واللاجئين وذلك يعني قرابة 5% من أعداد المهاجرين الكلي حول العالم. لكن على النقيض من ذلك، وعلى نمط الانتخابات التركية لكن بعنصرية وتحريض أقل، تعتبر قضية المهاجرين اليوم من أكثر القضايا إثارة للجدل خلال الحملة الانتخابية، إذ أعلنت الحكومة الألمانية عن إجراءات صارمة للحد من الهجرة قبل الانتخابات المرتقبة الأسبوع المقبل.وأطلقت الحكومة الألمانية عمليات تفتيش مؤقتة على الحدود عند المعابر مع بولندا والتشيك، كما أوقفت القبول الطوعي للاجئين القادمين من إيطاليا، وأعلنت عن خطط لتشديد قوانين الترحيل، ما قد يؤدي إلى سجن المهاجرين بشكل غير نظامي. من جهته، يريد المستشار الألماني أولاف شولتس تشديد الإجراءات، بما في ذلك إلزام اللاجئين بمغادرة البلاد إذا تم رفض طلب لجوئهم وتشديد الرقابة على الحدود وتعزيز التعاون مع دول أوروبية أخرى.يخشى بعض الساسة الألمان من حدوث شرخ داخل المجتمع الألماني ما بين مؤيد ورافض للمهاجرين، في وقت يقول فيه البعض إن سوق العمل الألماني يحتاج إلى هجرة سنوية تصل إلى 400 ألف عامل ماهر، إلا أن البعض الآخر لا يتفق مع هذه الذريعة ويتخوف من عدم قدرة المهاجرين على الاندماج مع الثقافة الألمانية، خصوصا وأن عددا كبيرا من هؤلاء أتوا من بيئات محافظة.أزمة حقيقية؟ أشار كبير دبلوماسي الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى أزمة الهجرة بقوله إن "الهجرة يمكن أن تكون قوة تفكك الاتحاد الأوروبي بسبب الاختلافات الثقافية العميقة بين الدول الأوروبية وعجزها على المدى الطويل عن التوصل إلى سياسة مشتركة". وعزا بوريل ذلك إلى الاختلافات الثقافية والسياسية العميقة داخل الاتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أن "الحرب في أوكرانيا لم تؤجج الخلافات الحالية بشأن الهجرة. إنها الحرب السورية، والحرب الليبية، والانقلابات العسكرية في منطقة الساحل الإفريقي". تعليقا على ذلك يشرح المحلل الطوسة أن هناك 3 عبر يمكن استخلاصها من هذه الأزمة: العبرة الأولى التوصل إلى اقتناع بان الصفقة الاقتصادية و الأمنية والسياسية التي وقعتها في الآونة الأخيرة دول الاتحاد الأوروبي مع تونس من أجل محاولة وضع حد لنشاط قنوات الاتجار بالبشر التي تستثمر في عملية نقل المرشحين للهجرة إلى الضفة الشمالية من المتوسط. ما يعني فشل واضح لهذه المقاربات الأوروبية التي تعول على أطراف خارجية لحماية حدودها و منافذ دخول المهاجرين.العبرة الثانية تكمن في أن هذه الأزمة تعتبر بمثابة هدية ثمينة لليمن الأوروبي المتطرف الذي يستعد لخوض معركة انتخابية حاسمة خلال الاستحقاق الأوروبي المزمع عقده في شهر يونيو المقبل. قوى اليمين المتطرف ستستغل هذه المشاهد لتوجيه انتقادات لاذعة للحكومة والتأكيد على عجزها في حماية الحدود الأوربية من هذه أمواج هده الهجرة الكثيفة التي تهدد وفق قناعتهم الأمن الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيهم.العبرة الثالثة برأي الطوسة فتكمن في التحدي السياسي الكبير الذي تطرحه هذه الأزمة على أليات التضامن الأوربي لاستيعاب تداعياتها. القانون الأوروبي يقول إنه يجب على إيطاليا بلد الدخول التعامل مع طلبات اللجوء وبعد ذلك تتم عملية التوزيع العادل للوافدين الجدد. بعض البلدان الأوربية خصوصا الشرقية منها ترفض هذا المبدأ و تغلق أبوابها أمام استقبال حصتها من اللاجئين الجدد. الشيئ الذي يضع على المحك مبدأ التضامن الأوربي ويهدد باندلاع أزمة قد تعصف ببنيان الاتحاد الأوروبي.(المشهد)