تشهد ليبيا حالة صراع خفي غير عنيف بين الولايات المتحدة والدول الغربية من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى، ما يثير المخاوف من تعقّد الأزمة السياسية أكثر.وذكرت تقارير صحفية أنّ روسيا تعزز وجودها في الغرب الليبيّ بعد إعادة فتح سفارتها في العاصمة طرابلس، والتوافق مع حكومة الوحدة الوطنية، على الرغم من وجودها ودعمها للجيش الليبيّ الذي يسيطر على الشرق.كما تسعى الصين لزيادة أنشطتها الاقتصادية والتجارية في برقة ومناطق أخرى في ليبيا.ويرى مدير معهد الصادق للدراسات أنس القماطي، أنّ ليبيا تجاوزت كونها مجرّد مسرح للاشتباكات الإقليمية، لتصبح نقطة محورية في لعبة الشطرنج الاستراتيجية العالمية. وأضاف القماطي في حديثه مع من منصة "المشهد"، أنّ "ليبيا تمثل الجناح الجنوبيّ لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لا يمكن المبالغة في أهميتها لأوروبا، الولايات المتحدة، وروسيا". وأشار إلى أنّ الخطوات الأخيرة التي اتخذتها روسيا والصين، تسلط الضوء فقط على احتمال تصاعد هذا الصراع الكبير. وأوضح أنّ طموحات الصين أساسًا اقتصادية، مع اهتمام كبير بالبنية التحتية والموانئ، إلا أنّ وجودها على الأرض يبقى ضئيلًا مقارنة بروسيا، التي تعمل بنشاط على إنشاء قاعدة لـ"فيلق إفريقيا" في شرق ليبيا. وقال: "هذا الاختلاف في المشاركة والأهداف الاستراتيجية يمهد الطريق لمواجهة متصاعدة"."صراع ناعم"ويتفق المحلل السياسيّ السنوسي إسماعيل، مع هذا الرأي، مؤكدًا أنّ ليبيا كانت محل نزاع تاريخيّ طويل بين الدول المتنافسة على السيطرة على البحر المتوسط بحكم موقعها الجغرافيّ وتركيبتها الديموغرافية الخاصة، حيث مساحتها الشاسعة وعدد سكانها القليل نسبة إلى التكتلات المتوسطة والضخمة المحيطة، بالإضافة إلى وجود احتياطيات موعودة من النفط والغاز ومعادن مهمة أخرى. بدوره، يقول المحلّل السياسّي عبدالله الكبير، إنّ ليبيا الآن "ساحة صراع دوليّ غير عنيف بين القوى الكبرى". وأضاف في حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ "هناك تقدمًا روسيًا في شرق ليبيا وجنوبها عبر قوات مجموعات فاغنر، والتي تتحول تدريجيًا إلى الفيلق"، مشيرًا إلى أنّ الصين تمددها عبر الاستثمارات القديمة المتجددة في مجال الطاقة والمعادن والبنية التحتية.وتمتلك روسيا نفوذًا كبيرًا في ليبيا من خلال انتشار مجموعة "فاغنر" في شرق ليبيا منذ عام 2019.ويتواجد نحو 2500 عنصر من "فاغنر" في مواقع وقواعد عسكرية عدة في سرت وقاعدة القرضابية الجوية ومينائها البحري، بالإضافة إلى قاعدة الجفرة الجوية، وتمددوا إلى الجنوب الغربيّ حيث تمركزوا في قاعدة براك الشاطئ الجوية.وتسعى موسكو بحلول الصيف المقبل إلى استبدال هذه القوات بـ"فيلق إفريقيا"، بحسب تقرير لصحيفة "فيدوموستي" الروسية.وتتحكم القوات الروسية في جميع الطرق الرئيسية وحقوق البترول المهمة في ليبيا.وخلال الأيام الأخيرة، أعلنت روسيا فتح سفارتها في العاصمة طرابلس، ما يؤدي إلى بداية جديدة بين موسكو وحكومة الوحدة الوطنية المسيطرة على الغرب الليبي.وأعلن السفير الروسيّ حيدر أغانين، عن قرب افتتاح القنصلية العامة في بنغازي، مؤكدًا التزامه بحضور أكثر نشاطًا وتعاون دائم في المنطقة، بحسب وكالة "نوفا". وقال الدبلوماسيّ الروسيّ إنّ العلاقات بين روسيا الاتحادية وليبيا تدخل "عصرًا جديدًا من التعاون والتفاهم المتبادل". كما أعلن السفير أنّ السفارة الروسية ستحتفل بالذكرى الـ70 للعلاقات الثنائية في 7 سبتمبر، ما يسلط الضوء على الأهمية العميقة لهذا الالتزام.انحسار النفوذ الأوروبيوأكد الكبير في حديثه لـ"المشهد"، أنّ النفوذ الأوروبيّ ينحسر، ولكنه لا يزال قويًا، ولفت إلى أنّ واشنطن تسعى للحفاظ على نفوذها ولكنها تواجه منافسة قوية مع روسيا والصين.أما السنوسي فأرجع التراجع الأميركيّ والأوروبيّ إلى أنه منذ إسقاط نظام القذافي تركت أميركا الملف الليبيّ للدول الأوروبية، والتي دائمًا ما تكون قرارتها ضعيفة.وقال لـ"المشهد"، إنّ أميركا لم تقدر بشكل دقيق خطورة ترك ليبيا، لذلك فؤجئت بنفوذ روسيّ قويّ من خلال شركة "فاغنر" في عام 2019. وأشار إلى أنّ التنافس الأوروبيّ على ليبيا بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، أدى إلى دخول دول جديدة على خط التنافس هي روسيا والصين وتركيا.وأكد السنوسي أنّ الصين لديها اهتمام كبير بالملف الليبيّ وتناغم مع روسيا في هذا الملف، ولم تعودا تسمحان لأوروبا بالانفراد بهذا الملف. وأكد أنّ الملف الليبيّ أصبح دائمًا على طاولة مجلس الأمن بسبب واشنطن وبكين.كما تسعى الصين إلى إعادة استثماراتها في ليبيا من جديد، والتي توقفت مع اندلاع الثورة ضد نظام معمر القذافي في 2011.وخلال الأيام الماضية، استقبل رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، صالح عطية رئيس اتحاد BFI الصيني، وهو تحالف بين شركات تقودها شركة مجموعة السكك الحديدية الصينية الدولية، وتم الحديث عن عدد من المشروعات في البنية التحتية والطاقة.وأعلن وزير الاقتصاد في حكومة الاستقرار الوطنيّ بشرق ليبيا، علي السعيدي، أنّ الصين اليوم هي القوة الفعالة القادرة على بناء الجسور والبنى التحتية والطرق في وقت قصير جدًا. وذكر السعيدي في تصريحات صحفية أنّ الصين ستموّل مشروع بقيمة 30 مليار دولار ليبيا لبناء مترو الأنفاق من خلال كونسورتيوم BFI. قبل الحرب الأهلية في عام 2011، كان لدى شركة البترول الوطنية الصينية قوة عاملة في ليبيا تصل إلى 30 ألف عامل وفني صيني، وتمكنوا من نقل أكثر من 10% من صادرات النفط الخام الليبي "الحلو"، بحسب وكالة الأنباء الإيطالية.توقعات قاتمةوأكد السنوسي أنه عندما تركت أميركا العملية السياسية في ليبيا للدول الأوروبية، تعرضت لمخاطر شديدة.وتشهد ليبيا فوضى عارمة منذ سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، وتتنافس على السلطة حكومتان، الأولى تسيطر على غرب البلد ومقرّها طرابلس ويرأسها الدبيبة، وشُكّلت إثر حوار سياسيّ مطلع 2021، وأخرى تسيطر على شرق البلاد ويرأسها أسامة حمّاد، وهي مكلّفة من مجلس النواب ومدعومة من المشير خليفة حفتر.ويؤكد مدير معهد الصادق أنّ تشابك القوى التي تملك حقّ النقض في مجلس الأمن في مستنقع ليبيا، ينذر بتوقعات قاتمة لآفاق السلام. وقال القماطي: "مع دخول روسيا والصين في المعترك - حيث تسعى موسكو إلى تحقيق مكاسب استراتيجية لإضعاف مصالح الغرب في ليبيا، بينما تركز بكين على تعزيز مصالحها الاقتصادية - يصبح تحديد المسؤولين عن إثارة النزاعات أمرًا معقّدًا للغاية".ويتفق الكبير مع هذا الرأي، مؤكدا أنّ هذا الصراع الناعم بين القوى الكبرى، يعطل الحل الدوليّ للأزمة الليبية في مجلس الأمن.وأشار إلى أنه سيتعذر تسوية الأزمة الليبية في ظل هذا التنافس المحموم بين القوى الكبرى. وقال: "استمرار الأزمة يمنح فرصة لروسيا والصين لزيادة تمددهما في ليبيا". (المشهد)