لن تكون عودة ترامب إلى البيت الأبيض لرئاسة ثانية كالأولى، خصوصا في سياسة الشرق الأوسط. قبل 8 سنوات، كانت الولايات المتحدة ما تزال جريحة بسبب حربي العراق وأفغانستان، وكانت إيران ماضية في التوسع والهيمنة الإقليمية، معززة بعشرات مليارات الدولارات التي جنتها من الاتفاقية النووية مع سلف ترامب باراك أوباما. هذه المرة، سيدخل ترامب البيت الأبيض بعدما قطعت إسرائيل أذرع إيران في لبنان وسوريا وغزة، وبعدما صارت إيران نفسها عارية بضربة جوية إسرائيلية دمرت دفاعات طهران الجوية وصناعتها الصاروخية، ولم تردّ الجمهورية الإسلامية حتى الآن، وليس من المتوقع أن تردّ.إيران الإسلامية من عدو أميركا إلى صديقهافي مفاوضات أوباما النووية، كان موقف إيران أقوى وأميركا أضعف، وكان أوباما يدعو إلى تجربة ما لم تتم تجربته، أي إعطاء النظام الإسلامي فرصة في الانفتاح عليه، على أمل أن تتحول الفرصة إلى كرة ثلج من الإيجابية التي تنمو وتحوّل إيران الإسلامية من عدو أميركا إلى صديقها. حدثت التجربة، وبدلا من أن توظّف إيران عائداتها من الاتفاقية النووية للنمو الاقتصادي والانخراط في المنظومة العالمية، استخدمت طهران أموالها للقيام بعكس ذلك تماما، أي لتمويل ميليشيات ساهمت في تقويض أمن الإقليم والنظام العالمي. من وجهة النظر الأميركية، فشلت تجربة الانفتاح على إيران، حتى لو حاول حزب أوباما الديمقراطي المكابرة والدفاع عن الاتفاقية النووية التي لم ينجح الديمقراطيون أنفسهم بقيادة الرئيس جو بايدن بإعادتها للحياة.في الاتفاقية النووية انتزعت إيران ما أسمته حقها بالتخصيب النووي. هذا ليس من حقوق الدول بل ينحصر بالدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن ودولتين أو 3 إضافيتين كباكستان والهند. أصرّت إيران أنها لن تدخل في اتفاقية ما لم يتم الاعتراف لها بحق تخصيب اليورانيوم من مرحلة الاستخراج من المناجم، مرورا بالطرود المركزية، إلى أن يصبح ما يطلق عليه الخبراء اسم الكعكة الصفراء. ونسبة التخصيب هي التي تحدد وجهة الاستخدام، ولا يتطلب الاستهلاك المدني أكثر من 20% مخصّبة على شكل قضبان لا يمكن زيادة تخصيبها بعد ذلك.المشاكل في اتفاقية أوباما النووية مع إيران كانت عديدة، يتصدرها أنها بنيت على أساس نشوء ثقة بين طهران وواشنطن تسمح بالاستغناء عن النصوص المكتوبة. وفعلا، قامت صداقة بين وزيري الخارجية حينذاك جون كيري وجواد ظريف، لكنها صداقة بقيت شخصية وتلاشت مع خروج الشخصيتين من الحكم. ثانيا، تم تضمين الاتفاقية النووية ضوابط ذات صلاحية محدودة وتسمح، مع انتهائها، بتخصيب إيراني منفلت الضوابط. ثالثا، شكلت الاتفاقية اعترافا دوليا أن لإيران ”حق التخصيب“ بدون إرسالها اليورانيوم الى دولة ثالثة لتخصيبه وإعادته غير قابل للمزيد من التخصيب.ترامب وتدمير المنشآت النووية الإيرانيةفي العشرين من الشهر المقبل، سيعود ترامب إلى الرئاسة مع اتفاقية نووية مع الإيرانيين تلاشت بنودها، ومع طهران مهزومة عسكريا وضعيفة. سيطلب ترامب من الإيرانيين شحن كل اليورانيوم المخصب إلى دولة ثالثة، الأرجح روسيا، وسيطلب منهم تفكيك الطرود المركزية، وستتحول إيران إلى دولة مثل باقي دول العالم ممن تشحن اليورانيوم المحلي ليتم تخصيبه في دولة أخرى وإعادته غير قابل للمزيد من التخصيب وجاهزا للاستخدام المدني، أو يتم تخصيبه على الأراضي الإيرانية ويكون بإشراف عن كثب تقوم به دولة ثالثة. إذا وافقت إيران على طلب ترامب، يحرز ترامب انتصارا تاريخيا باهرا يتفوق فيه على أوباما واتفاقيته النووية مع إيران وسائر الرؤساء الأميركيين السابقين ممن لم ينجحوا في انهاء الملف النووي الإيراني. أما إن رفضت إيران، فسيسمح ترامب بتدمير المنشآت النووية الإيرانية بضربة جوية ساحقة ماحقة. قد تقوم إسرائيل بهذه الضربة، بعدما أثبتت قدراتها في تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية قبل أشهر، وقد تقوم أميركا — التي تتمتع بقدرات مضاعفة أضعاف كثيرة أكثر من إسرائيل — بتوجيه ضربة ساحقة ماحقة تنهي فيها البرنامج النووي الإيراني بشكل شبه كامل. كذلك هناك إمكانية بأن تقوم الدولتان الحليفتان بهذه الضربة، على الرغم أن قيام أميركا بها يغنيها عن أي مشاركة إسرائيلية.في المحصلة، توصّلت واشنطن إلى نتيجة مفادها أن على إيران التخلي عن ما تسمّيه حقها في التخصيب وعن برنامجها النووي بالكامل، أو خسارته بضربة عسكرية. المفاوضات هذه المرة تلي انتصارات إسرائيلية محققة، وضعف إيراني واضح. إيران الإسلامية معروفة غالبا بواقعيتها، منذ أعلن مؤسسها روح الله اجتراعه كأس السم لوقف الحرب مع عراق صدام حسين إلى أن تناسى مرشدها الحالي علي خامنئي فكرة الرد على آخر ضربة إسرائيلية معلنة وموجعة ضد نظامه.لكن هل يذهب خامنئي في واقعيته إلى حد الاستسلام وتسليم برنامجه النووي؟ أم يخاطر بتعرضه لضربة تقضي على البرنامج، وتحفظ ماء وجهه، ويحاول البقاء وإعادة البناء في وقت لاحق؟ وفي حال تنازل خامنئي عن برنامجه النووي، هل يتطلب ذلك منه التنازل عن طموحاته الاقليمية والميليشيات، تحت طائلة عودة ترامب إلى سياسة "الضغط القصوى" وتشديد العقوبات؟ أم يتنازل خامنئي عن النووي وتسمح له أميركا بالحفاظ على امبراطوريته التي تقلصّت بخسارته لبنان وسوريا؟.الإجابات عن هذه الأسئلة في طهران وحدها، وربما داخل رأس خامنئي حصرا. أما الإجابات عن كيفية تعامل ترامب مع إيران وملفها النووي، فهي سياسة بدأت تتبلور وتتخذ شكلها كما أسلفنا في سطورنا أعلاه.