بعد أن وصلت إلى نقطة الانهيار في عام 2013 إبان الإطاحة بحكم جماعة "الإخوان المسلمين" عقب ثورة شعبية آنذاك، تعود من جديد العلاقات المصرية التركية إلى مساراتها الطبيعية بعد سلسلة من الخطوات الإيجابية أقدم عليها مسؤولو البلدين في الفترة الماضية، والتي كان أبرزها الزيارة التاريخية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى القاهرة في فبراير الماضي، لتمهد بذلك انطلاقة كبيرة نحو ترميم وتقوية علاقات أصابها الصدع في فترة لم تكن بالقليلة.واليوم وصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة في زيارة رسمية وصفت من قبل الكثيرين داخل مصر وخارجها "بالتاريخية"، حيث تعدّ الأولى له منذ توليه عرش مصر في عام 2014، تلبية لدعوة مقدمة من نظيره التركي.وشهدت الزيارة توقيع عدد من اتفاقيات التعاون بين البلدين، في مجالات مختلفة، فيما أكد الرئيس المصري أن الزيارة تؤسس لمرحلة جديدة من التكامل والتعاون بين مصر وتركيا، لافتا إلى أن انعقاد مجلس التعاون الإستراتيجي بين البلدين يعد نقلة نوعية مهمة.وأشار في مؤتمر صحفي مشترك مع إردوغان، إلى أنهم يعملون على زيادة التبادل التجاري بين البلدين إلى 15 مليار دولار خلال السنوات المقبلة.اللقاء تطرق أيضًا إلى مناقشة القضايا الإقليمية الراهنة وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حيث شددا على ضرورة إيجاد سبل لتخفيف المعاناة الإنسانية في غزة.وتوافقت الدولتان على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة، بالإضافة إلى إنهاء الصراع في السودان، فضلاً عن أهمية وحدة وسيادة الصومال."تصفير المشكلات"وفي خضم الاهتمام الواسع بزيارة السيسي التاريخية لتركيا، أكد مدير مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط الدكتور أحمد أويصال في حديثه لمنصة "المشهد" أنّ زيارة السيسي لبلاده تأتي في توقيت بالغ الأهمية، خصوصا مع تصاعد وتيرة الاضطرابات والنزاعات التي تمر بها مناطق عديدة داخل الشرق الأوسط وفي القلب منها الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ 11 شهرا، والتي أفرزت تحولات خطيرة على المنطقة بأسرها، وهو الأمر الذي يؤكد على أن تلك الزيارة لن تكون بروتوكولية فحسب، بل سيتخللها وضع تصورات واتفاقات على نقاط محددة ليس فقط فيما يخص العلاقات الثنائية، بل أيضاً التعاون الإقليمي والدولي من أجل العمل على عدم اتساع رقعة الصراعات الدائرة داخل المنطقة.ولفت أويصال إلى أن هناك تحولات مهمة في السياسة الخارجية لكل من القاهرة وأنقرة، عززها إعادة ترتيب المشهد الإقليمي من خلال العودة إلى سياسة ما أطلق عليه "تصفير المشاكل" وتوسيع التحالفات مع القوى المحورية داخل المنطقة، وهو ما يُحتّم على البلدين ضرورة التوصل إلى تفاهمات واسعة فيما يخص إدارة الصراعات داخل المنطقة، والتعاون الإيجابي في مواجهة التغيرات الجيوسياسية الموجودة، موضحاً أن التنسيق بين البلدين في قضايا المنطقة أمر في غاية الأهمية وخصوصا وأن مواقفهما لا تتعارض، بل هناك توافق وتنسيق بشأن إيجاد حلول جذرية للمشكلات.وكانت وتيرة العلاقات تسارعت إلى الوضع الدبلوماسي الطبيعي بين مصر وتركيا بعد أن تصافح الرئيسان السيسي وإردوغان في الدوحة في نهائيات كأس العالم لكرة القدم عام 2022، واكتسب مسار التفاهم والتقارب بين الدولتين زخماً كبيراً في عام 2023، بعد أن حدثت خطوات كبيرة نحو تطبيع العلاقات بينهما بشكل كامل، بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى السفراء.ومن هنا، وصف مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير جمال بيومي زيارة السيسي لتركيا اليوم "بالهامة جداً" والتي ستعمل على إنهاء حقبة من التوترات التي حدثت بين البلدين وبناء علاقات جديدة راسخة أساسها المصالح المشتركة، والتعاون المشترك، سواء على المستوى الثنائي أو على الإقليمي الذى يمر بتحديات عديدة تتطلب التشاور والتنسيق بين البلدين، وأضاف أن الزيارة ستشهد أول اجتماع لمجلس التعاون والتنسيق الإستراتيجي بين البلدين، الذي سيحدد الإطار الذي ستتحرك فيه العلاقات الثنائية خلال الفترة المقبلة.ووفقاً للسفير بيومي فإن ثمّة العديد من الاعتبارات والدوافع التي وفرت بيئة خصبة لدفع التقارب بين مصر وتركيا، ولعل من أبرز هذه الدوافع هو التوافق على إدارة التفاعلات التي شهدتها المنطقة في الفترة الماضية والتي كان من أهمها التأكيد على دعم العملية السياسية داخل الأراضي بعيداً عن الصراعات العسكرية للحفاظ على وحدة أراضيها، كما دعمت القاهرة وأنقرة ضرورة معالجة القضية السورية ضمن إطارات وسياقات تعمل على الحفاظ على الدولة المركزية.ويقول الدبلوماسي المصري لـ"المشهد" إن الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة والتي اقتربت من اكتمال عامها الأول، ستكون محوراً مهماً على طاولة نقاشات السيسي وإردوغان، خصوصا في ظل وجود تطابق كبير بين مصر وتركيا تجاه هذه الأزمة، إذ يتفق الجانبان على ضرورة وقف إطلاق النار بشكل فوري في القطاع، وإدخال أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين، وتحقيق التهدئة بالضفة الغربية.وبين أن أنقرة بالنسبة للقاهرة شريك مهم في العديد من الملفات والتي من أبرزها الملف الليبي، وقضايا القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وكلها مناطق تشهد وجودًا أو نفوذًا تركياً لافتاً.تحديات مشتركةوخلال هذه الفترة يمر الاقتصادان المصري والتركي بتحديات مشتركة تشبه بعضها بعضا والمتمثلة في ارتفاع مستويات التضخم واللجوء لرفع أسعار الفائدة، وتذبذب التصنيف الائتماني للبلدين، نتيجة تراكم الديون الخارجية ونقص الدولار باختلاف حدتها، وبالتالي فإن ملف التعاون الاقتصادي بين الدولتين بات يحظى باهتمام بالغ.لذا يقول المحلل السياسي التركي أحمد أويصال إن زيارة السيسي تعد فرصة ذهبية لكل من القاهرة وأنقرة، والتي يجب استغلالها لتعزيز وتعميق الاستثمارات والتعاون الاقتصادي والتجاري والسياحي بينهم للعبور من هذه الأزمة المالية، مؤكداً في الوقت ذاته أن التجارة نقطة مهمة في العلاقات بين القاهرة وأنقرة خصوصا بعد أن وصل حجمها إلى 8 مليارات دولار، مع وجود رغبة جادة في ضرورة العمل لرفع مستوى التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار خلال المرحلة المقبلة.وأوضح في حديثه مع "المشهد" أن مصر تعد بوابة رئيسية لصادراتها إلى دول القارة السمراء، كما أنها سوق مهم لمنتجاتها المختلفة.وعلى الجانب الأخر، يؤكد الخبير الاقتصادي المصري أبو بكر الديب أن بلاده تعد بمثابة بيئة جاذبة للاستثمارات التركية، وذلك بالنظر إلى القدرات التنافسية التي تتمتع بها بيئة الأعمال في مصر، إضافة إلى أن المشاريع المشتركة بين الدولتين يمكن أن تمثل أساسًا لدعم وتطوير الاقتصاد بينهما، مشيرا في حديثه مع "المشهد" إلى أن مصر دائماً ما تكون موضع اهتمام من قبل المستثمرين الأتراك، لأن تكاليف العمال والإنتاج أرخص بكثير منها في مضيق البوسفور.وبحسب الديب فإن الاستثمارات التركية في مصر يتركز أغلبها في المجال الصناعي وخصوصًا قطاعات الغزل والمنسوجات والملابس الجاهزة، والمنتجات الكيماوية، والمنتجات الزجاجية، وإعادة التدوير، هذا بخلاف استثمارات كبيرة في مجال السياحة والمطورين الصناعيين.كما يرى الديب أن هناك انعكاسات إيجابية على اقتصاد البلدين نتيجة التقارب بينهما، ومن أبرزها نفاذ صادرات البلدين إلى المحيط الإقليمي للطرف الآخر، فصادرات مصر يمكنها النفاذ بقوة إلى السوق الأوروبي مستغلة الخبرة التركية في هذا الأمر، بالإضافة إلى تفعيل صادرات تركيا مع السوق الإفريقي صاحب الـ1.4 مليار مستهلك، ناهيك عن تحسن الليرة والجنيه معا نتيجة لهذا التقارب.(القاهرة - المشهد)