يترّقب الليبيون كما سكّان جنوب تونس، مآل قرار رفع الدعم عن المحروقات الذي قالت حكومة الوحدة الليبية إنها تريد تطبيقه من أجل مكافحة ظاهرة تهريب النفط الليبي. وأعلنت الحكومة المؤقتة في ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، عزمها رفع الدعم عن المحروقات من أجل الحدّ من تهريب وسرقة النفط الليبيّ الذي يكلّفها خسائر كبيرة وفق الأرقام الرسمية. وتعدّ ليبيا الدولة الثانية التي تمتلك أرخص أنواع المحروقات في العالم، ويبلغ سعر اللتر الواحد للديزل حاليًا 0،031 دولار (أي 960 مليم تونسي). وتنشط شبكات دولية في تهريب النفط في ليبيا، وبحسب المعطيات الرسمية يخسر البلد الذي يعتمد بشكل كلّي على عائدات النفط بسبب تهريب الوقود، ما لا يقلّ عن 750 مليون دولار سنويًا، فيما بلغت الإعانات المخصصة للوقود أكثر من 12 مليار دولار العام 2022 بزيادة قدرها 71.4% مقارنة بالعام 2021، بينما تشير تقديرات المؤسسة الليبية للنفط إلى أنّ ما بين 30 و40 %من الوقود المكرر في ليبيا أو المستورد من الخارج، يتعرّض للسرقة أو التهريب. أزمة في تونس لا تقف تداعيات رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا عند حدود البلد، فارتداداته ستصل إلى تونس أيضًا وفق كثير من المراقبين. ويعيش الجنوب التونسيّ من تجارة تهريب النفط الليبي، الذي يوّفر موارد رزق لآلاف العائلات في محافظات تونسية كثيرة. والتهريب على الحدود في تونس يوفّر مورد رزق لأكثر من 6 آلاف شخص بحسب دراسة لمعهد كارنيغي للشرق الأوسط صدرت عام 2022. ويستغل مهربو الوقود في معظم المحافظات الجنوبية التونسية، انخفاض أسعاره في ليبيا مقارنة بتونس، لتحقيق أرباح مهمّة، ويمتد توزيع البنزين الليبي المهرب إلى محافظات الوسط وتصل أرباحه إلى نحو 330 مليون دولار سنويًا. ويدخل مهربو النفط من ليبيا بضاعتهم عبر طرقات وعرة بعيدًا عن المراقبة الأمنية ولهم ارتباطات بشبكات داخل الدولة الجارة. وينتشر تجّار النفط المهرب من ليبيا على كل الطرقات في المحافظات الجنوبية لتونس، وباتت هذه التجارة عماد اقتصاد تلك المناطق التي تصل فيها معدلات الفقر إلى 17.8%، ومعدلات البطالة إلى 24.8% بحسب أرقام رسمية. وتسبّب إغراق الجنوب التونسي بالنفط الليبيّ في إغلاق محطات الوقود المنظمة، ورغم أنه يكبّد الدولة التونسية خسائر مهمّة بسبب عدم قدرتها على تحصيل ضرائب على هذا النشاط الموازي، فإنّ تهريب النفط من الجارة الجنوبية قلّص الضغط عليها في ما يتعلق بأزمة الوقود وفق الخبير في الشؤون الليبية غازي المعلّى، الذي يقول لمنصّة "المشهد" إنّ تهريب البنزين من ليبيا وفّر موارد رزق لعائلات كثيرة في الجنوب وشكّل حلًا لأزمة المحروقات في تونس التي تكلف الدولة موارد كبيرة. وكشفت دراسة سابقة للبنك الدولي، أنّ كميات المحروقات المهربّة عبر الحدود الليبية التونسية، تمثّل أكثر من 17% من استهلاك المحروقات في تونس. ويرى معلّى أنّ الحكومة التونسية اليوم ستجد نفسها في صورة رفع ليبيا للدعم عن المحروقات في مواجهة أزمتين، الأولى فقدان شباب محافظات الجنوب لمصدر رزقهم، والثانية زيادة كلفة توريد المحروقات. وهو ما يؤيده المعهد العربيّ للمؤسسات(مستقل) في تقرير له كشفه قبل أيّام، جاء فيه أنّ إلغاء دعم المحروقات في ليبيا، سيزيد "من استنزاف الاحتياطيات التونسية من العملات الأجنبية التي يتطلب الإيفاء بتعهداتها في سداد الديون بحلول فبراير المقبل". وتوقع المعهد أن يؤدي القرار المنتظر إلى زيادة العائدات الضريبية للدولة، خصوصًا أنّ هذا المنتوج محتكر من قبل الدولة عن طريق الشركة التونسية لصناعات التكرير، لكنه في المقابل أكد أنه سيقود إلى ارتفاع واردات المحروقات، الأمر الذي سيتولد عنه استنزاف الاحتياطيات التونسية من العملات الأجنبية.تعميق الانقسام في ليبيا لكنّ قرار حكومة الدبيبة رغم اجماع المراقبين الاقتصاديّين على وجاهته، لم يخلق أزمة في تونس وحدها، فقد أحدث ضجّة كبيرة داخل ليبيا، وقُوبل برفض شعبيّ واسع أنذر بتحوّله إلى احتجاجات شعبية بدأت بوادرها تتشكلّ من خلال تنسيق المواقف بين مناطق عدة، مثل الزنتان والزاوية وغريان ومصراتة وبني وليد، في وقت حاولت فيه حكومة الشرق برئاسة حمّاد، توظيفه لصالحها متهمة الدبيبة بالارتجال وعدم مراعاة واقع الشعب الليبي. وأجبر الرفض الشعبيّ للقرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبد الحميد الدبيبة، على التراجع عن المرور لتطبيقه، قائلًا إنّ اتخاذ أيّ خطوة في هذا الاتجاه، يتطلّب توافر شرطين أساسيّين أولهما قبول الناس بها ودعمها، والشرط الثاني أن يكون مردودها المالي مباشرًا في جيب المواطن من دون وسيط. وطمأن الدبيبة مواطنيه بأنّ النقاشات بشأن مسألة دعم الوقود وبدائله مستمرة، "وذلك للوصول إلى صيغة تضمن حق المواطن من هذا الدعم، بعيدًا عن مصالح المهربين وحلفائهم"، وطرح في المقابل القيام باستفتاء شعبيّ لمعرفة رأي الليبيّين فيه. قرار لن يرى النور ويرجّح المراقبون أن يفشل الدبيبة في تمرير هذا القرار بسبب الرفض الشعبيّ الواسع له، نظرًا لتداعياته الكبيرة على معيشة الليبيّين، ويقول المعلّى إنّ رفع الدعم عن أيّ مادة خطوة لا يمكن تمريرها بسهولة، خصوصًا إذا كان البلد في حالة عدم استقرار مثل ليبيا. فيما يقول الخبير الاقتصاديّ والكاتب الصحفيّ الليبيّ محمد عمران كشادة، إنه على الرغم من مساعي حكومة الوحدة الوطنية لرفع الدعم عن المحروقات واستبداله بدعم نقدي، وذلك باعتبار أنّ الدعم للمحروقات يكلف ميزانية الدولة مبالغ طائلة، إلا أنه من الصعب من الناحية العملية رفع الدعم عن المحروقات، نظرًا لأسباب عديدة يعددها في تصريحه لمنصّة "المشهد" على النحو الآتي: أولًا: لا توجد بنى تحتية في ليبيا تسهّل حركة الناس ونقل البضائع، فغالبية الطرق في حالة يُرثى لها، وتشهد المدن الكبرى في ليبيا ازدحامًا شديدًا، ويتطلب الانتقال من مكان إلى آخر داخل المدينة الواحدة، وقتًا طويلًا، وهذا وضع يستحيل في ظله رفع الدعم. ثانيًا: لا توجد مواصلات عامة في ليبيا وبأسعار معقولة تساعد على التنقل بين المدن وداخل المدينة الواحدة، وتكون بديلًا مناسبًا للمواطن. ثالثًا: هناك رفض شعبيّ لهذه الخطوة، لهذا لجأت الحكومة إلى الدعوة للحوار المجتمعيّ والنقاش للوصول إلى تفاهمات يمكن أن تساعد في قبول الناس لهذه الخطوة. رابعًا: هناك رفض على مستوى النخب لرفع الدعم عن المحروقات، وقد سارع خصوم الحكومة السياسيّين في شرق ليبيا، إلى رفض خطوة الحكومة لرفع الدعم، وهذا مؤشر على تحدٍّ آخر أمام الحكومة إذا مضت في قرارها، وهنا يطرح تساؤل مهم: ما مدى قدرة الحكومة على فرض قرارها برفع الدعم عن المحروقات على كامل التراب الليبي، في ظل حالة الانقسام السياسيّ والصراعات، في بلد توجد به حكومتان متصارعتان؟ ويشدد كشادة إنّ مساعي الحكومة لرفع الدعم عن المحروقات، في حال تم اتخاذ القرار بذلك، سيزيد من معاناة الليبيّين الذين أرهقتهم الحروب والصراعات وغلاء المعيشة. وتمتلك ليبيا أكبر احتياطيات نفطية في إفريقيا، وتمثل الصادرات البترولية 95% من عائداتها.(المشهد)