اكتسب الملف السوري ثقلا كبيرا في الأشهر والأسابيع الأخيرة التي سبقت الانتخابات التركية المصيرية في 14-28 مايو الماضي، بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الإلحاح على التطبيع مع سوريا، ما دفع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى اللجوء لصديقه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طالبا مساعدته من أجل التوسّط لعقد لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد في محاولة لنزع هذه الورقة من يد المعارضة.نجح بوتين في تحريك المياه الراكدة بين دمشق وأنقرة من خلال عقد أول اجتماع دبلوماسي رفيع المستوى بين الطرفين منذ اندلاع الحرب السورية على مستوى وزراء الخارجية، فيما تواردت الأنباء حول فشل موسكو في إقناع الأسد بخطوة اللقاء الشخصي دون تحقيق مطالبه في جدولة الانسحاب التركي من الأراضي السورية. بالمقابل، إردوغان وبعد فوزه في الانتخابات سرعان ما بدأ بإرسال إشارات متضاربة من خلال تصريحات وتحرّكات دبلوماسية اُعتبر بعضها من قبل روسيا مضرة بالعلاقات الثنائية المتنامية، والتي توّجت بمساعدات روسية كبيرة لإردوغان على طريق الظفر بالرئاسة للمرة الثالثة من خلال تأجيل ديون الغاز وتحويل الأموال وتنشيط التجارة وغيرها، فيما بات تراجع الرئيس التركي عن الليونة في اللهجة التي كان يستخدمها تجاه العلاقات مع دمشق واضحا أيضا. كان حضور تركيا قويا في الحرب السورية، في وقت تدخلت فيه بطرق وأساليب مختلفة، بدءا من الضغوط السياسية، مرورا باستخدام اللاجئين كورقة ضد سوريا والاتحاد الأوربي في آن واحد، حتى التدخّل العسكري المباشر من خلال عمليات عسكرية أدت إلى سيطرة أنقرة على مناطق واسعة من الشمال السوري، وتأسيسه لنظام إداري وتنظيمي جديد مبني على تكتيكات تتريك المنطقة وتغيير ديموغرافيّتها من خلال فرض اللغة التركية في المدارس ورفع العلم التركي واستخدام الليرة التركية في التداولات التجارية واليومية، إلى جانب دعمها لمجموعات مسلّحة أعادت تشكيلها تحت مسمّى جديد "الجيش الوطني السوري" في عام 2017.تجميد مسار التطبيع السوري التركي طوال السنوات الماضية لم تتبنّى أنقرة خطابا واضحا تجاه الملف السوري، وإنما ساد على تصريحاتها تقلّبا في المواقف حسب الظروف الإقليمية من جهة، وطبيعة علاقاتها مع خصوم الملف السوري من جهة أخرى، تبلور هذا التباين في الخطاب الإعلامي والدبلوماسي التركي الذي بدّل مطالبه بضرورة تنحي الأسد بضرورة اتّخاذه موقفا واضحا من التنظيمات الإرهابية الكردية حسب توصيفها.قبل الانتخابات التركية، عقد الجانبان عدة جلسات في موسكو، لكنها لم تنجح في رفع مستوى اللقاءات إلى مرتبة الروؤساء، بسبب تمسّك كل طرف بموقفه، فيما بدأت التحليلات تميل إلى اعتبار أن سعي أردوغان الحماسي للتطبيع مع دمشق لم يكن إلا دعاية انتخابية، في وقت يمثّل فيه اللاجئون السوريون قضية جوهرية في الداخل التركي لا تقل أهمية عن الملف الاقتصادي، الأمر الذي أثبتته الشعبية التي حصلت عليها المعارضة في الانتخابات لأول مرة في تاريخها.يتمثل الهدف الأساسي لأنقرة من تقاربها مع دمشق في التخلّص من اللاجئين السوريين على أراضيها، والذين تجاوز عددهم 5 ملايين لاجئ، في ذات الوقت تحاول جاهدة وقف أي موجة هجرة جديدة إلى أراضيها.لكن ترى تركيا أن دمشق اليوم غير قادرة على تأمين حياة كريمة للسوريين الراغبين بالعودة، يضاف إلى ذلك عدم قدرتها على منع أي موجة هجرة جديدة تنطلق من أراضيها، ما يمكن أن يشرح تمهّل أنقرة في مسار التطبيع من جهة، مقابل تحقيق هدفها بترحيل اللاجئين السوريين قسرا إلى مناطق معيّنة بهدف إحداث تغيير في تركيبتها السكانية.وفي هذا السياق يقول المحلل والكاتب السياسي التركي إسلام اوزكان في حديث خاص إلى "المشهد" إن "أردوغان يقدم وعودا في مختلف المجالات قبل الانتخابات، كما هو الحال دائما، بما في ذلك المفاوضات والقضايا المتعلقة بالاقتصاد والتطبيع مع سوريا واللاجئين. فوزه في الانتخابات كان مرتبطا بوعود معالجة قضايا تركيا المزمنة مثل الاقتصاد واللاجئين. ويبدو أن الكثير من هذه الوعود كانت موجهة للفوز في الانتخابات. كان من المفترض أن تحل مشكلة اللاجئين من خلال المفاوضات والتقارب مع الحكومة السورية". من وجهة نظر أنقرة وفقا لأوزكان "يعتبر أحد الأمور التي تعقد وتعسر مسألة التقارب هو أن الجانب السوري يضع انسحاب الجيش التركي من الشمال كشرطٍ أولي لبدء المفاوضات، ويبدو أن هذا الأمر لا يلقى ترحيبا كبيرا من قبل أنقرة. تقدم أنقرة بالعديد من الحجج في هذا السياق وتعتبر أن الوجود في شمال سوريا يجب أن يستمر لأسباب أمنية، ومع ذلك، تظل الادعاءات بأن سيطرة الجيش السوري على شمال سوريا تشكل تهديدا للأمن التركي غير واضحة، حيث ستتحمل دمشق المسؤولية عن الأمن ومن المرجح أن تكون موسكو ضامنة بهذه المسألة، وهذا يعزز من شكوك بأن تركيا تنوي البقاء في شمال سوريا لفترة طويلة ولا تعتزم الانسحاب".رسائل غير ودية في آخر ظهور له قال الرئيس السوري إن التحدي الأبرز أمام عودة اللاجئين هو البنية التحتية التي دمّرها الإرهاب، لافتا إلى أن الإرهاب في سوريا صناعة تركية. وأضاف أن هدف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من الجلوس معي هو شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا، مشيرا إلى أنه لن يتم اللقاء مع أردوغان تحت شروطه. استقبلت الأوساط التركية المؤيدة لإردوغان كلام الأسد حول أن الإرهاب في سوريا صناعة تركية بغضب شديد، ظهر ذلك عبر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي استنكرت هذه الاتهامات. قد تعكس لهجة الأسد الأجواء المتوترة وراء الكواليس فيما يخص تعنت الجانب التركي بعدم الانسحاب من الأراضي من السورية، يتزامن ذلك مع تراجع آني في العلاقات بين إردوغان ونظيره الروسي الوسيط الأساسي في هذه المفاوضات.حول ذلك يشرح أوزكان "لم يتم الإعلان رسميا عن أي تصريح في المستوى الرسمي، ولكن الإعلام التركي كان قاسيا إلى حد ما في نهجه. على سبيل المثال، تناولت موقع قناة "كانال 7" التلفزيونية، المعروفة بتوجهها الحكومي الخبر بعنوان "تصريحات متعجرفة من الأسد: كلمات قاسية جدا بحق تركيا وإردوغان". من المحتمل أن يقدم المسؤولون الحكوميون اعتراضات مماثلة على تصريحات الرئيس الأسد في الأيام القادمة، ما لم يحدث تدخل دولي أو تدخل من الأطراف الدولية، ستشهد العلاقات بين الجانبين توترا وعدم اقتراب المفاوضات في المستقبل القريب".دور أميركي من جهته، يرجع الباحث والمحلل السياسي محمد نادر العمري في حديثه إلى منصة "المشهد" التحول في الموقف التركي إلى دور أميركي تلعبه واشنطن قائلا "تتصاعد وتيرة الصراع الأميركي الروسي في أوكرانيا مع تزايد احتماليه انتقاله إلى سوريا، الأمر الذي تستغله تركيا في سوريا وفي ملفات أخرى، فوز إردوغان في الانتخابات أعطاه جرعة معنويات وقوة، وأصبح غير متعجلا لتطبيع العلاقات، وخصوصا أن كان يريد الاستثمار في الملف قبل الانتخابات". ويضيف "العامل الأهم هو اجتماع الرئيس التركي ونظيره الأميركي جو بايدن في ليتوانيا حيث تبادل الجانبان العديد من الرسائل، الأمر الذي قد يحمل في طياته تعاونا أميركا تركيا جديدا، وبدأت الولايات المتحدة ترجمته في الميدان السوري من خلال دمج العشائر العربية مع قسد، ومحاولة واستغلال ما يسمى بالجيش الوطني، ومحاولة نقلهم إلى التنف لتحقيق المصلحة الأميركية بإغلاق الحزام الأمني الواصل بين التنف (المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق والأردن) وإغلاق معبر البوكمال، مرورا بمناطق سيطرة قسد، وصولا إلى شرق مدينة إدلب، ما انعكس بشكل واضح على مسار التطبيع السوري التركي).وبرأي أوزكان " حكومة حزب العدالة والتنمية في الفترة الأخيرة عادت لتوجيه وجهها من الشرق إلى الغرب مرة أخرى، والدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة لا تبدي تفهما تجاه تقارب دمشق وأنقرة، ويمكن أن يكون التركيز المستمر على التقارب مع الحكومة السورية مضرا بعلاقات تركيا مع الدول الغربية، لذلك لم يكن اردوغان وحكومته حريصا على طرح أو ذكر موضوع التطبيع".(المشهد)