خلال الأعوام الماضية من عمر الأزمة السورية، ابتعد الأردن عن التفكير في تبنّي فكرة المنطقة العازلة، رغم طرحها إقليميًا، على الرغم من التحدّيات التي واجهتها عمّان ولا زالت إثر تهريب المخدّرات والسلاح.هذه الفكرة كانت بالنسبة للمملكة تعني دخولًا إلى الأراضي السورية والانخراط تلقائيًا في الأزمة السياسية التي تعانيها سوريا من دون حلول، إلا أنّ هذا السيناريو بات نشيطًا في الآونة الأخيرة، ويتم تداوله من قبل سياسيّين ومحلّلين، خصوصًا بعد ارتفاع منسوب "الإرهاب" القادم من الجنوب السوريّ إلى الشمال الأردني. وأدى التصاعد في عمليات تهريب المخدّرات، إلى تطوّرها لتصبح محاولات جادة من قبل ميليشيات مدعومة من إيران، لإدخال الأسلحة بشتى أنواعها ولو بالقوة إلى الأردن، وهو ما لاقى صدًا من الجيش الأردنيّ الذي انهمك مؤخرًا في عمليات عسكرية استباقية ضد معاقل المهربين والمخربين. ومع عدم فعالية مطالبات عمّان لدمشق بوقف هذه العمليات، خرجت تساؤلات مؤخرًا عن ضرورة فرض منطقة عازلة عسكرية في العُمق السوريّ الجنوبي. تهريب المخدرات إلى الأردنوأكد الأكاديميّ والباحث المختص بالشأن الإيرانيّ الدكتور نبيل العتوم في تصريحات لمنصة "المشهد"، أنه "بعد تهريب 3000 نوع من الذخائر إلى الأراضي الأردنية والصواريخ، في محاولة لخلط الأوراق واستنزاف قدرات الأردن التي تشترك بمساحة جغرافية مع الحدود السورية تبلغ نحو 375 كيلومتر، فإنّ المملكة تمكّنت العام الماضي من إحباط تهريب 65 مليون حبّة كبتاغون، ما يشكّل نقطة خطيرة بسبب محاولة إغراق السوق الأردني، والتأثير على النسيج الاجتماعيّ الوطنيّ عبر إدخال المخدرات التي تُعتبر سببًا حقيقيًا وراء انتشار ظاهرة الجريمة". ويخوض الأردن منذ أشهر عدة، مواجهات عسكرية مفتوحة مع العمليات المنظمة لتهريب الأسلحة والمخدرات التي تقودها مليشيات منظمة.وقال العتوم، "الأردن كما هو معروف، يخوض هذه الحرب دفاعًا عن النفس وعن بعض الدول المجاورة، خصوصًا أنّ عمليات التهريب بدأت تأخذ أشكالًا عدة، بعد تهريب أسلحة نوعية مثل الصواريخ وإطلاق المسيّرات المحمّلة بالمخدرات، بالإضافة إلى احتمالية وجود أساليب مبتكرة من ضمنها حفر الأنفاق لمحاولة العبور للأراضي الأردنية". ومن أهداف هذه المحاولات وفق الباحث، نقل الفوضى إلى الأردن ومحاولة خلط الأوراق، لإيجاد "موطئ قدم في المملكة للمليشيات الإيرانية، وربما التواصل مع خلايا نائمة موجودة في الداخل". "اختراق أمني" عبر سوريا وعلى مدار الأعوام الماضية، لجأ الأردن إلى مجموعة من المسارات والخيارات للتعامل مع هذا الوضع وفق العتوم، الذي تحدّث عن أنّ الخطوة الأولى كانت باعتماد الحوار مع دمشق على المستوى السياسيّ والعسكريّ والاستخباراتي، كما حصل خلال لقاء عمّان في 24 يوليو الماضي. وأضاف، "لكن للأسف لم ينجح ذلك، ما يعكس الفهم الأوسع لما يجري على طول الحدود، ويُفصح بأنّ الموضوع ليس فقط تهريب مخدرات، ولكن هو عملية استنزاف للأردن واختراق أمنيّ وعسكريّ عبر سوريا". وأكد الباحث أنّ هذا عكس أمرين اثنين، وهما استمرار محاولة التهريب بأساليب وأشكال مبتكرة ومتنوعة انسجام لتحقيق أهداف معينة، بالإضافة إلى عدم تعليق النظام السوريّ على هذه المحاولات المتكررة لعملية تهريب الأسلحة والمخدرات، الأمر الذي يشي بأنه ليس مجرد رضا عمّا يحدث بل هناك دعم أيضًا. محاولات التهريب اتخذت شكلًا منتظمًا بالتعاون مع المؤسسات العسكرية والاستخبارية في سوريا وفق العتوم، الذي قال إنّ خطوط الإمداد والمعلومات الموجودة لدى عمّان، تؤكد أنّ هذه العمليات لا تتم فقط عبر الأراضي السورية، بل من خلال الأراضي اللبنانية أيضًا. وأضاف: "الأردن لديه معلومات موثّقة حول المعامل والمصانع وأماكن إنتاج المخدرات، وتغليفها وتصنيعها وإخفائها، والمسارات والطرق التي يسلكها المهرّبون، بالإضافة إلى طبيعة العمليات التي تتم، خصوصًا أنّ المملكة تعتبر هذه القضية قضية أمن قوميّ ينبغي متابعتها على أقصى درجات الانتباه".الحرس الثوري الإيراني وبالمحصلة كانت نتيجة الحوار الأردني الرسمي مع الجانب السوري صفر خصوصا فيما يتعلق بالالتزامات الخاصة التي قطعتها الدولة السورية على نفسها بالحفاظ على الحدود الشمالية للأردن آمنة.وقال العتوم: "هذا التحرّك يعكس أمرين اثنين. الأمر الأول يكشف أن دمشق غير قادرة على السيطرة على حدودها الجنوبية والأمر الثاني أنها غير راغبة في تحقيق ذلك". ولفت إلى أن الحوار المباشر مع الإيرانيين كان جزءا من السياسة الأردنية بشأن تهريب المخدرات على طول الحدود، خصوصا وأن طهران هي اللاعب الرئيسي في المشهد السوري مع إدراك أن عمليات التهريب إلى الأردن تتم بتوجيه رسمي إيراني من جانب ما يُعرف بالحرس الثوري الإيراني. وأضاف: "كان هناك سلسلة من اللقاءات التي تمّت في العاصمة بغداد وكان هناك تعهّد إيراني بوقف هذه العمليات ولكن في نهاية المطاف كانت النتيجة صفر والإيرانيون مستمرون في محاولة إغراق الأردن بالمخدرات والسلاح". ولم يقف الأردن عند هذا الحدّ، بل كانت له اتصالات مع الكرملين وحديث معمّق حول عمليات التهريب، إلا أن العتوم قال إن "مشكلة الجانب الروسي تمثلت في الحرب الأوكرانية وعودة انتشار الجيش السوري وسحب بعض القوات الروسية سمح للميشيات الإيرانية بالتمدد عبر جبهة جنوب سوريا واتخاذها كرأس حربة بتهديد الأمن الأردني وكساحة لتبادل الرسائل مع الخصوم والمنافسين وبالأخص الجانب الإسرائيلي من خلال جغرافيا الجنوب السوري إلى تبادل الرسائل مع تل أبيب خدمة للملف النووي الإيراني لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في المجال السياسي والجيواستراتيجي". وشدّد على أن الأردن سيستمر في العمليات العسكرية كما حدث في مايو 2023 عندما شنّ ضربات جوية وتمّكن من تصفية تاجر المخدرات مرعي الرمثان وجرى استهداف مخابئ ومصانع المخدرات وعمليات التهريب. منطقة عازلة القصف الجوّي الأردني لمهربي المخدّرات في المدن السورية قال عنه العتوم إنه "كان رسالة واضحة في هذ الجانب والأردن يسعى لإعادة العمل ضمن قواعد الاشتباك وتطوير هذا الجانب بما ينمدمج مع المتطلبات الأردنية العسكرية وحماية المملكة". ولم يستبعد العتوم وضع تصورات عسكرية وأمنية واستخبارية جديدة من ضمنها إقامة منطقة عازلة لا يقل عمقها عن 30 كلم داخل الأراضي السورية. وأكد أن هذا أمر وارد جداً من خلال التعامل مع الأطراف الإقليمية والحلفاء لا سيما الولايات المتحدة. وإذا استمرت عمليات التهريب باتجاه الأراضي الأردنية، أكد العتوم إمكانية أن تكون هناك رؤية جديدة حول المنطقة العازلة ومحاولة تشكيل مجموعات مسلحة جنوب سوريا بهدف إنشائها على طول الحدود الأردنية السورية في محاولة لتحجيم الوجود الإيراني وجماعة "حزب الله" اللبنانية والتنظيمات الإرهابية على غرار تنظيم "داعش". وقال إن النظام الإيراني يتعامل مع "داعش" التي هي أحد الأدوات لتهريب المخدرات خصوصا بعد أن حُرم التنظيم من مصادر تمويله بعد سيطرة الولايات المتحدة على حقول النفظ في شرق سوريا. إن التلويح بإيجاد منطقة عازلة ومحاولة التواصل مع القادة المحليين من درعا والسويداء والقنيطرة داخل سوريا، يشكل رسالة بضرورة التراجع والضغط على المليشيات الإيرانية وحتى ثني طهران عن محاولاتها المتكررة لاختراق الأمن الأردني، وفق الباحث. وأضاف العتوم: "هناك قبول لدى الدول الإقليمية حتى بعض دول التعاون الخليجي والولايات المتحدة وغيرها من الدول بإنشاء منطقة عازلة وآمنة وهي أحد الحلول المطروحة خصوصا بعد إدراك دول المنطقة خطر التمدد الإيراني في جنوب سوريا". واعتبر أن كبح التموضع الإيراني يبدأ من أبناء المنطقة الجنوبية عبر تشكيل مجموعات مسلحة من أبناء الجنوب السوري كالتي كانت موجودة سابقا وإخراج المتعاونين مع إيران منها لقطع أسباب ووسائل وجودها. وقال العتوم: "السوريون من سكان الجنوب السوري رحّبوا بهذه الأطروحات"، مبينا أن إنشاء المنطقة آمنة قد يؤدي إلى التخلص من الملاحقات الأمنية بالنسبة للسكان المحليين خصوصاً طلب الخدمة العسكرية وكبح استمرار الانفلات الأمني وعمليات الاغتيال والقتل التي تتم بشكل شبه يومي من جانب المليشيات الإيرانية. إن إنشاء المنطقة العازلة يبقى بالنتيجة مرهون بالتفاهمات والاتفاقيات الإقليمية والدولية خصوصا أن لروسيا قوة عسكرية لا زالت تُديرها في المنطقة من خلال فصائل كانت معارضة قبل اتفاق التسوية عام 2018. الأمن الوطني الأردني أستاذ العلوم السياسية الدكتور بدر الماضي كان له رأي مخالف عن العتوم، حيث أكد أنه على الرغم من القلق الاستراتيجي الكبير على الأمن الوطني الأردني فإن الأردن الرسمي لن يُقكّر في إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية. وأضاف الماضي في حديثه لمنصة "المشهد" أن السبب يكمن في "أن الأردن يحترم سيادة الدولة السورية على الرغم من القصور الواضح لدمشق في فرض سيطرتها على منطقتها الجنوبية". وقال إن الأردن ما زال قادرا على تقديم الكثير للحفاظ على أمنه سواء على المستويين الإقليمي أو الدولي أو على مستوى القيام بهجمات متتالية على العصابات المتمثلة بمهربي المخدرات. وأكد أن الأردن ليس من الدول التي تحاول تجاوز القوانين والقانون الدولي وسيادة الدول، وبذات الوقت لا تُحاول إجراء شيء جديد في المنطقة لم يعتد عليه سكان المنطقة من قبل الدولة الأردنية، في ظل أن نظام الحكم في المملكة قائم على العقلانية في التعامل مع الآخرين.(المشهد)