سدود واسعة أصبحت مجرد مساحات ترابية فارغة من الماء، وزراعات خرجت من الأرض ووجدت درجات حرارة مرتفعة وسطحًا قاسيًا لتصير حطامًا تذروه الرياح، تلك هي حالة القطاع الزراعي بالمغرب، الذي بات أكثر القطاعات تأثرًا بالتغيرات المناخية، بالنظر لارتباطه الوثيق بهطول الأمطار، وهو ما فرض على المغرب البحث عن بدائل وحلول مبتكرة، للتقليص من حدّة تأثير التغير المناخيّ على القطاع الزراعي والاقتصاديّ والاجتماعي.إجهاد مائيّ هيكليفي أكتوبر الماضي، دقّ العاهل المغربي، الملك محمد السادس في افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان، ناقوس الخطر بشأن الوضعية المائية للمغرب، ودعا في هذا الصدد إلى "أخذ إشكالية الماء، في كل أبعادها، بالجدّية اللازمة، خصوصًا عبر القطع مع كل أشكال التبذير، والاستغلال العشوائيّ وغير المسؤول، لهذه المادة الحيوية".وأشار العاهل المغربي إلى أنّ "الحالة الراهنة للموارد المائية، تسائلنا جميعًا، حكومة ومؤسسات ومواطنين، وتقتضي منا التحلّي بالصراحة والمسؤولية في التعامل معها، ومعالجة نقط الضعف، التي تعانيها".وأضاف أنّ "المغرب أصبح يعيش في وضعية إجهاد مائيّ هيكلي، ولا يمكن حلّ جميع المشاكل، بمجرد بناء التجهيزات المائية المبرمجة، رغم ضرورتها وأهميّتها البالغة". من جهة أخرى تشير تقديرات الخبراء إلى أنّ المغرب يواجه أسوأ موجة جفاف لم تشهدها البلاد منذ ما يتجاوز الـ40 عامًا، وهو ما يضع البلاد أمام تحديات وتهديدات متزايدة، تعرقل مسار التنمية التي انخرط فيها المغرب، وتفرض إيجاد بدائل وحلول مستدامة من أجل التخفيف من وطأة الجفاف وندرة الموادّ المائية المخصصة لسقي المساحات المزروعة وإنتاج الخضروات. وبحسب المديرية العامة للأرصاد الجوية في المغرب، فإنّ الأعوام الأخيرة تميزت بندرة التساقطات وارتفاع معدلات درجات الحرارة الموسمية عن المعدلات الطبيعية، ما جعل البلاد تواجه ظواهر جوية متطرفة. وبحسب معطيات رسمية لوزارة التجهيز والماء، فقد عرفت معدل الأمطار المسجلة خلال الفترة الممتدة من 2018 إلى 2023، تراجعًا ملحوظًا، وكان لهذا النقص تأثير مباشر على الفرشات المائية السطحية والجوفية، إذ انخفض مخزون المياه على مستوى السدود، وباتت نسبة ملئها الإجمالية لا تتعدى 23.74% إلى حدود يوم الثلاثاء 05 ديسمبر 2023.الزارعون أكثر المتضررين تشكل الزراعة العمود الفقريّ للاقتصاد المغربي، إذ تساهم بالقسط الأكبر في الناتج الداخليّ الخام للمغرب. وقد بلغت هذه المساهمة 14% أي ما يعادل 127 مليار درهم في سنة 2021، (نحو 13 مليار دولار)، كما توفر الفلاحة فرص عمل لنحو 40% من السكان النشطين. وخلال الأعوام الأخيرة، شهد المغرب تأخرًا كبيرًا في تساقطات الأمطار، ما أدى إلى انخفاض حادّ في مخزونات المياه الجوفية، وتراجع الإنتاج الزراعي، وارتفاع أسعار الموادّ الغذائية التي تأثرت بفعل تراجع المساحات المزروعة وندرة المياه المخصصة للسقي، وكذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج. مع تأخر سقوط الأمطار، يتعرض القطاع لتحديات هائلة تؤثر على الإنتاج والاقتصاد المغربي، إذ تتسبب فترات الجفاف وتأخر الأمطار في نقص المياه المخصصة للسقي، ما يضرّ بالمحاصيل الزراعية ويحول دون قدرة المزارعين على الاستثمار بشكل فعّال في الإنتاج. هذا يؤدي إلى انخفاض الإنتاج الزراعيّ وتراجع الدخل الفلّاحي، ما يزيد من حدّة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخصوصًا في المناطق الريفية التي باتت أكثر تضررًا. ففي السابق كانت المساحة المزروعة في المغرب تقارب 9 مليون هكتار من المساحة المزروعة أي ما يفوق ربع مساحة البلاد، لكنها تراجعت بشكل كبير بسبب تراجع نسبة الأمطار الموسمية، وتقليص المساحات المزروعة، وعزوف الفلاحين عن زراعة أراضيهم بسبب غلاء تكاليف الإنتاج ونقص المياه الجوفية.تطرف المناخ وعلى الرغم من أنّ المغرب يُعتبر من الدول القليلة المساهمة في انبعاثات الكربون، إلا أنه يتأثر بشدّة بتغيرات المناخ. فالاحتباس الحراريّ يلعب دورًا كبيرًا في زيادة تكرار فترات الجفاف وتأخر سقوط الأمطار. تتسبب هذه الظاهرة في تقليل كميات المياه الجوفية وتأثيرها على توافر المياه للزراعة. وتشير المعطيات الرسمية التي قدمتها السلطات المغربية إلى أنّ عام 2022 وُصفت بكونها عام الظواهر الجوية المتطرفة، فهي سنة جافة وشديدة الحرارة، بل تُعتبر السنة الأكثر حرارة على الإطلاق في المغرب منذ أكثر من 40 سنة. وقد كان القطاع الفلّاحيّ أكثر المتضررين بسبب هذه الظواهر المناخية الناتجة عن الاحتباس الحراري والزيادة المضطردة في تركيزات الغازات الدفيئة، فالموسم الفلاحيّ لسنة 2022، يعد الموسم الأكثر جفافًا خلال الأربعين سنة الماضية، مع تسجيل عجز سنويّ في الأمطار بلغ نحو 46%، كما لا يختلف الوضع بالنسبة للموسم الفلاحي برسم عام 2023، حيث تتسم وضعية القطاع بتراجع الإنتاج المحلّي في مختلف الأصناف والمنتجات الفلاحية. ومن تداعيات الاحتباس الحراري وتأخر سقوط الأمطار، انخفاض الإنتاج الزراعي، حيث تراجع إنتاج الحبوب في المغرب خلال السنوات الأخيرة، بنسبة تفوق 30%، ليوازي ذلك ارتفاع أسعار الموادّ الغذائية، حيث ارتفعت أسعار الموادّ الغذائية الأساسية، بنسبة تتجاوز 20%، وهو ما أدى بالحكومة المغربية إلى وضع قيود على تصدير بعض المنتجات الفلاحية، للحدّ من ارتفاع الأسعار والتحكم في التضخم، والحفاظ على مخزونات هذه المنتجات في السوق المحلي. كما أدى هذا الوضع إلى إحجام المزارعين عن الاستثمار في الزراعات، خشية تعرّضهم للخسارة بسبب نقص المياه المخصصة للسقي، وهو ما أدى إلى تراجع نسبة الاستثمارات في القطاع الفلاحي، وتشديد المراقبة على الزراعات الأكثر استهلاكًا للمياه، خصوصًا في المناطق الداخلية للبلاد.أيّ بدائل؟ ولمواجهة هذه الوضعية التي أثرت على جميع مناحي الحياة، يسعى المغرب إلى إيجاد بدائل لتجاوز تبعات تأخر تساقطات الأمطار، وذلك بالتوجه نحو اعتماد زراعات مقاومة للجفاف، حيث تركز الحكومة المغربية على دعم زراعة الحبوب المقاومة للجفاف، وتشجيع الفلاحين على الانخراط في هذه الزراعات التي تحتاج إلى كميات أقل من المياه. ويرى الخبير والباحث في الاقتصاد محمد التسولي، أنّ الإجهاد المائيّ الذي يعانيه المغرب بات أمرًا واقعًا، وبشهادة أعلى سلطة في البلاد، إضافة إلى تقارير البنك الدولي، التي أكدت أنّ المغرب يعاني شحًّا في المياه، ويوجد ضمن 5 دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعاني شحّ المياه، أي فوق الحدّ المطلق لشحّ المياه، البالغ 500 متر مكعب للفرد سنويًا. ويضيف التسولي في تصريح لمنصة "المشهد" أنّ "البدائل التي أقرتها الحكومة المغربية تبقى نسبية ولن تحد من إشكالية ندرة المياه، إذ يتوجب تشديد الرقابة على الاستغلال العشوائيّ للمياه الجوفية، وتجريم استخدام المياه الصالحة للشرب في السقي، خصوصًا سقي المناطق الخضراء بالمدن بهذه المادة الحيوية، في حين تتوافر بدائل أخرى يمكن اللجوء إليها كاستعمال المياه العادمة التي تمت معالجتها".تحلية مياه البحركما تتجه الحكومة المغربية بتوجيهات ملكية إلى إقرار مشاريع لمواجهة حالتَيْ الجفاف والإجهاد المائي، وذلك عبر تكثيف مشاريع تحلية مياه البحر والمياه العادمة، وإعادة استعمالها في الريّ والسقي، إضافة إلى الطرق السيارة للماء، عبر ربط الأحواض المائية التي تمتلك مخزونات معتبَرة، بتلك التي أًضحت جافة بفعل الجفاف. ويتوفر المغرب في الوقت الحاليّ على 14 محطة لتحلية مياه البحر بطاقة إنتاجية إجمالية تصل إلى 192 مليون متر مكعب في السنة، إضافة إلى 6 محطات في طور الإنجاز بقدرة إنتاجية ستناهز 135 مليون متر مكعب في السنة. كما تعتزم الحكومة المغربية إنجاز مشاريع 16 محطة أخرى بقدرة إنتاجية إجمالية ستصل إلى 1490 مليون متر مكعب في السنة خلال السنوات القليلة القادمة. ولمواجهة ظاهرة الاستغلال المفرط للفرشات المائية، لجأ المغرب أيضًا إلى تشديد المراقبة على مصادر المياه الجوفية لترشيد استغلالها في القطاع الفلاحي، ومنع حفر الآبار والعيون بشكل غير قانوني، إضافة إلى تشديد الرقابة على الممارسات الزراعية. (المغرب - المشهد)