على الرغم من تراجع وتيرة الاحتجاجات التي اجتاحت مناطق الشمال السوري الواقعة تحت سيطرة تركيا من خلال فصائل "الجيش الوطني" الذي أسسته أنقرة، ردّاً على إشارات التطبيع بين أنقرة ودمشق، إلا أن سرعة انتشارها وفوضى السلاح المرافقة لها تُنذر بالمخاطر الأمنية والميدانية المحدقة في حال تطور المساعي الرسمية للتطبيع بين البلدين.ولم تكن الاحتجاجات العنيفة هي الإشارة الأولى على الانقسام العمودي في بنية "الجيش الوطني" و"الحكومة السورية المؤقتة" التابعين لأنقرة على رفض التطبيع، بل انطلقت الشرارة الأولى لهذا الانقسام مؤخراً من خلال الأحداث التي شهدها افتتاح أول معبر بين مناطق سيطرة تركيا والحكومة السورية في شمال البلاد.اقتصاد المعابر كشفت الحرب السورية، في زحمة مفرزاتها الاقتصادية، عن تجارة المعابر التي فرضت نفسها كأمر واقع لتقاسم الجهات المتحاربة للسيطرة الجغرافية على مساحة البلاد. شكّلت هذه المعابر التي عرفت في معظم الأحيان بأسماء القرى والتجمّعات السكانية أو التضاريس الطبيعية المحيطة بها، رئة ومتنفساً لسكان المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، ووسيلة لانتقال الطلّاب والمرضى والراغبين بالسفر وغيرهم من القاطنين. وفي حين بقيت المعابر بين مناطق الحكومة السورية وسيطرة "الإدارة الذاتية" المعلنة من طرف واحد في شمال شرق البلاد بعيدة عن التوتّرات الميدانية وعرضة للتحوّلات السياسية والإدارية فقط، فإن المعابر الواقعة في مناطق المسلحين وخصوصا المجموعات التابعة لأنقرة شمالاً، شهدت حروباً طاحنة بين تلك الفصائل بغية الإمساك بإدارة المعبر لما لها من مكاسب سياسية ومالية كبيرتين.معبر "أبو الزندين"في نهاية يونيو الماضي، وبالتزامن مع إشارات بعودة الدفء إلى العلاقات السورية-التركية، أعلن "المجلس المحلي لمدينة الباب" عن افتتاح معبر "أبو الزندين"، الذي يربط مدينة الباب في منطقة سيطرة الفصائل التابعة لتركيا في ريف حلب الشرقي، بشرقي مدينة حلب الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية. وكان المعبر المذكور نشطاً حتى عام 2020، حينما قررت "الحكومة السورية المؤقتة" التابعة لأنقرة إغلاق المعابر مع كل من الحكومة السورية و"الإدارة الذاتية" على خلفية جائحة كورونا، وبقيت قيد الإغلاق حتى الأسبوع الماضي. ويشرح الكاتب والصحفي السوري إبراهيم حزوري في حديثه مع منصّة "المشهد" أن "المعبر عمل ليوم واحد تجريبياً، وما أن تم الإعلان عن بدء العمل به في اليوم الثاني بشكل رسمي، حتى أعيد إغلاقه بضغط من سكان المنطقة، الذين اعتبروا الخطوة مقدّمة للتطبيع مع الحكومة السورية". وحسب حزوري، وهو من أبناء المنطقة، فإن الكثير من العوامل تقف وراء التوتّر الذي رافق الاحتجاجات وإغلاق المعبر "أبرزها مطالبة المجموعات المسلّحة المحلّية السيطرة عليه، عوضاً عن المجموعات المسلّحة الكبرى المنضوية تحت مظلة الجيش الوطني". أعلن "المجلس المحلي لمدينة الباب" التابع للحكومة المؤقتة التابعة لأنقرة أن المعبر يمكن إعادة فتحه في حال تسلّمه لإدارته عوضاً عن الفصائل المسلّحة التي لها تاريخ حافل من الاقتتال من أجل السيطرة على المعابر.تهريب الأشخاص والبضائع إلى جانب عامل التنافس، يتحدّث أبناء المنطقة أيضاً عن تضارب المصالح بين الجهات العاملة في تهريب الأشخاص والبضائع بين منطقة سيطرة تركيا والمناطق المحيطة بها، وبين الراغبين في الإمساك بالمعبر كسبب آخر خلف الاحتجاجات على فتح المعبر المذكور. يقول حسن، وهو ناشط مقيم في المنطقة، رافضاً كشف المزيد عن تفاصيل هويّته لحساسية الموضوع "إن المعبر سيشكّل متنفساً لسكّان المنطقة ويقوّي مركزهم أمام الإدارة الذاتية التي تتحكم بالمعابر الوحيدة المفتوحة على المنطقة المحاصرة من قبل كافة الجهات، حتى مناطق سيطرة الأكراد". ويضيف الشاب حسن أن "تجارة مربحة جداً قائمة على تهريب الأشخاص من وإلى المنطقة تديرها شبكات تجني أرباحاً كبيرة، وبطبيعة الحال هذه الجهات لن تكون مسرورة من افتتاح المعبر"، من دون أن ينفي "مخاوف السكّان من أن يكون فتح المعبر خطوة ضمن مسار تسليم المنطقة" للحكومة السورية مع نضوج شروط المصالحة بين دمشق وأنقرة. فيما يؤكد حزوري أن "المعبر الذي تقرّر افتتاحه في المرحلة الأولى لتسهيل التبادل التجاري، قد يتم لاحقاً السماح بمرور المدنيين من خلاله بعد مدّة، وهو ما يعني تسهيل حركة البضائع والأشخاص من وإلى المنطقة من دون التكبّد بعناء الانتقال عبر طرق وعرة وخطيرة بكلف مالية عالية جداً".المعابر جزء من اتّفاق شامل رغم عدم صدور تصريحات رسمية حول خلفيات افتتاح معبر "أبو الزندين" من قبل أي من الأطراف المنخرطة في الملف السوري، إلا أن نصوص التفاهمات السابقة بين كل من روسيا وإيران وسوريا وتركيا تشير بوضوح إلى ضرورة فتح الطرق التجارية التي تربط مختلف المناطق السورية مع بعضها كأحد شروط نجاح مفاوضات التسوية. أسفرت اتفاقية أستانا عام 2017 عن فتح طريق "إم 4" الحيوي، الذي يربط شمال سوريا بجنوبه بين مدينتي حلب ودمشق وصولاً إلى الحدود مع الأردن. وفي حين نصّ الاتفاق على فتح طريق "إم 5" الدولي أيضاً، والذي يربط حلب بالساحل السوري في اللاذقية، وعلى الرغم من المحاولات والدوريات الروسية - التركية المشتركة على الطريق المذكور استعداداً لافتتاحه، فقد بقي الطريق المذكور مغلقاً لعدم قيام تركيا، الضامن للمجموعات المسلّحة في إدلب من الالتزام بتعهّداتها. قياساً مع الطرق الدولية المذكورة، يمكن القول بأن معبر "أم الزندين" لا يتمتّع بوزن وأهمية مواز لها، إلا أن الخطوة قد تشكّل بالون اختبار لكيفية إدارة تفاهمات تجارية أعقد مستقبلاً، بالإضافة إلى أهميّتها الاجتماعية. لا يستبعد حزوري خطوة افتتاح المعبر ومثيلاته مستقبلاً، لكنه يؤكّد على أن الظروف الحالية لن تجعل من الخطوة ممكنة خلال الأيام القليلة القادمة.الموقف التركيفي المقابل، يعتبر الصحفي التركي تشاغلار تيكين أن المعابر في الداخل السوري مسألة سورية، لكنها ترتبط بطريقة أو بأخرى مع تركيا من ناحيتين:سياسياً تشير إلى إمكانية تطبيع العلاقات، خصوصا مع الأخذ بعين الاعتبار تأثير أنقرة على الحكومة السورية المؤقتة التي تدّعي سيطرتها على هذه المعابر.اقتصادياً من خلال استغلال هذه المعابر من أجل حركة تجارية أطول وأشمل لناحية ربط تركيا بمنطقة الخليج العربي جنوباً.وتشهد مناطق شمال سوريا احتجاجات طالت مواقع عسكرية وحكومية تركية في المنطقة رفضاً للتصريحات الصادرة عن أنقرة مؤخراً حول إمكانية تطبيع العلاقات مع دمشق، أدّت إلى مقتل 4 أشخاص وفق مصادر تركية، و7 أشخاص حسب مصادر محلّية برصاص الجيش التركي ردّاً على محاولات إنزال العلم التركي من على السواري المتمركزة على النقاط التابعة لتركيا بشكل مباشر أو الفصائل السورية التابعة لأنقرة.وبالأمس، أعلنت أنقرة إغلاقها لكافة المعابر الحدودية مع المناطق السورية، وهي معابر تسيطر عليها المجموعات المسلّحة المنضوية تحت مظلة "الجيش الوطني" شمال حلب، و"هيئة تحرير الشام" شمال إدلب، فيما يبقى معبر كسب الوحيد الذي يربط بين دمشق وأنقرة بشكل مباشر وهو مغلق أمام حركة الأفراد والآليات منذ عام 2011.(المشهد)