في وضع غير مسبوق في فرنسا منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وبعد أكثر من 50 يوماً على نتائج الانتخابات البرلمانيّة المُبكرة، لا تزال حكومة "مُستقيلة" تحكم البلاد وأزمة تأليف أخرى تزداد ضبابيّة وتعقيداً، متسببة بقلق كبير. وما يزيد الأمر تعقيداً، إصرار الرّئيس إيمانويل ماكرون على أن يستمر في السعي لحلّها عبر مفاوضات سياسية مع الأحزاب المختلفة. فبعد رفضه القاطع تأليف حكومة يساريّة التّوجه، باشر ماكرون، الثلاثاء، "دورة جديدة من المشاورات" بحثاً عن رئيس الوزراء المُرتقَب، وقد يلجأ إلى تغيير تكتيكاته السياسية، ودخول "دهاليز" مختلفة مثل تقديم تنازلات أو تشكيل تحالفات جديدة، لضمان تأليف حكومة فعّالة "برويّة". المعركة تنتقل إلى الشّارعوفي هذا السياق، أوضح الكاتب والمُحلّل السّياسي في باريس ميشال أبو نجم في حديث لمنصّة "المشهد"، أن "ماكرون لا يريد أن تأتي حكومة يسارية ذات برنامج انتخابي يسير عكس السياسات الليبرالية التي انتهجها عهده منذ أكثر من 5 سنوات. ونظراً للتّطورات الأخيرة، والمأزق الواقع، كان من الطبيعي أن تأتي ردود اليسار والخضر عنيفة، وأن تنهال الاتهامات على ماكرون".اتّهمت الأمينة العامّة لحزب الخضر مارين توندوليه، الرئيس الفرنسيّ، بـ"الانقلاب على نتائج الانتخابات"، واتّهمه الأمين العام للحزب الاشتراكيّ بـ"زرع الفوضى"، وقد قرّر حزب "فرنسا الأبيّة" نقل المعركة إلى الشارع بالدعوة إلى تعبئة شعبية يوم 7 سبتمبر المقبل، وأعلن في بيان "التجاوب مع منظمات الشبيبة واتحاد الطلاب من أجل تظاهرة كبرى رفضاً للانقلاب الذي قام به ماكرون".حكم ماكرون "انتهى" ورأى أبو نجم أنّه "حتى السّاعة لا تزال الأمور ضبابية جدّاً، ولا أحد يعرف هوية الشخصية التي سيكلّفها ماكرون بتأليف الحكومة على الرغم من تداول مجموعة من الأسماء، والثابت الوحيد أن الأزمة وإن ولّدت حكومة، سوف تتواصل تحت قبة البرلمان، وفي الشارع أيضاً، لا، بل إن المعركة الرئاسية فُتحت، وأن الأيام السعيدة التي عرفها ماكرون خلال ولايته طوال السنوات الـ7 الماضية حين كان الحاكم بأمره، انتهت إلى غير رجعة".من جهته، اعتبر أستاذ العلاقات الدّولية في جامعة ليون، المحلّل السّياسي د.بيار لويس ريمون أن "ماكرون يحاول أن يُطبّق ما فعلته ألمانيا التي لم تعد تتحدث عن أحزاب يسارية أو ليبرالية، بل جمعت كل هذه التوجهات السياسية في تحالف واحد". وتابع في حديثه مع "المشهد" أن "ما يسعى إليه ماكرون تحديداً هو "زرع" التحالفات وبالتالي يركز على "فرقعة" الاستقطابات الأساسية التي كنا نسميها كليفاج (clivage) من يسار، يمين، أو ليبرالية (...)، لكن مثل هذا الزرع لا يمكن أن تتقبّله السياسة الفرنسية". وأضاف "لذلك أعتقد أن مخطط ماكرون يصعب جداً تطبيقه في المدى القريب، ولكن في الوقت نفسه هذا التفكير ينمّ عن توجّه سياسيّ جديد يرى ماكرون أن فرنسا لا بدّ لها من اعتماده إذا كانت تريد أن تدخل حلبة التوجهات السياسية الأوروبية".أسماء مرشّحة لرئاسة الحكومة وأضاف ريمون: "بلجيكا على سبيل المثال، بقيت أشهراً طويلة من دون حكومة إلى أن تحققّ الحلّ عبر التفكير الجديد. وإذا كنا نفكر من منطلق تاريخ الأحزاب الفرنسية وتاريخ السياسة الفرنسية سيكون من الصعب جدا تطبيق هذه الفكرة. أما في ألمانيا فيرتكز تطبيق التّوجه المستحدَث على أسماء جديدة لا تنتمي إلى توجهات سياسيّة".وأشار إلى أنه في فرنسا، "يدور الحديث عن شخصيّة مثل إيريك لومبار - الذي يعتبر من كبار الموظفين - كأحد الاختيارات التي يمكن أن تقوم على فكرة أننا لا نختار يساريّاً، ولا نختار يمينيّاً، ولا حتى سياسيّاً، وإنما نحاول إقامة حكومة تكنوقراط. من الأسماء التي وردت أيضاً اسم كامل بو عمران وهو عمدة مدينة سان أوين، في ضواحي باريس، ويُعتبر من الأقطاب الصاعدة لليسار الفرنسي التي تحاول أن تصلح اليسار من الداخل، من منطلق روح التجدد. وهناك أسماء تقليديّة أكثر، أسماء سياسية هذه المرة، ولكن يرى البعض أنها قادرة على الجمع بين التناقضات السياسية، مثل فاليري بيكريس أو برنار كازنوف أو كزافييه برتراند".يتجلى التناقض الحاد في الواقع السياسي الفرنسي راهناً بين عنوان صحيفة "ليبيراسيون" اليسارية، الثلاثاء، "إيمانويل ماكرون: الازدراء"، وعنوان صحيفة "لو فيغارو" اليمينية "فرنسا تتفادى كارثة". فاليسار بقواه المختلفة يعتبر أن الرئيس لم يحترم نتائج الانتخابات المبكرة التي دعا هو إليها، واليمين يرى أن الرئيس جنّب البلاد كارثة سياسية اقتصادية بامتناعه عن تسمية شخصية يسارية لتولي رئاسة الحكومة. تعيش فرنسا إذاً حالة من التخبّط والقلق مع نفاد الوقت أمام ماكرون لاختيار رئيس للحكومة، إذ يتحتم تقديم ميزانية السنة المالية المقبلة إلى الجمعية الوطنية في الأول من أكتوبر، في ظل جدول أعمال رئاسيّ مشحون مع افتتاح الألعاب البارالمبية أمس الأربعاء. أيام صعبة تعرفها كل طبقات المجتمع الفرنسي الذي يبدو أنه دخل مرحلة من التغيرات، لا يستبعد بعض المراقبين أن تؤذن ببداية النهاية للجمهورية الخامسة تمهيداً لولادة الجمهورية السادسة.. ولهذا الشأن حديث آخر.(المشهد )