تبدو ليبيا، التي تفتقد إلى الاستقرار منذ أكثر من عقد، أمام تحد سياسي واقتصادي صعب من جراء تصاعد الغضب الشعبي ضد قرار رئيس حكومة "الوحدة الوطنية" منتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، برفع الدعم عن المحروقات.وفي حين حذّرت أوساط سياسية ومدنية حكومة غرب البلاد من "التأثيرات السلبية" للقرار على شريحة واسعة من المجتمع الليبي المنهك من تبعات الحرب واللا استقرار السياسي، أكّد الدبيبة على أن "القرار لا رجعة فيه" على الرغم من أنّه لم يدخل حيز التنفيذ بعد. حيث قرّر الدبيبة رفع الدعم عن المحروقات، في قرار يهدف للحدّ من أنشطة التهريب واستنزاف المالية العامة، حسب قوله.وقال الدبيبة خلال اجتماع لجنة المحروقات الدبيبة الثلاثاء إن "قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات اتخذ، ولا رجعة فيه". من دون أن يوضح تاريخ بدء تنفيذ هذا القرار والإجراء البديل عن ذلك. وأضاف الدبيبة، أن المؤسسات الدولية ومصرف ليبيا المركزي والأجهزة الرقابية حذرت من الاستمرار في الوضع الحالي، مشيرا إلى أن قيمة الدعم وصلت إلى 50% من دخل البلاد. رفع الدعم عن المحروقات طرح ديوان المحاسبة الليبي تقريره السنوي للعام 2022، رؤيته بشأن معالجة مشكلة إهدار دعم المحروقات، معتبرا أن الحل المستدام لا يخرج عن خيارين: إما استبدال الدعم النقدي بالعيني أو تنظيم عمليات توزيع المحروقات. وقال الخبير الاقتصادي الليبي علي الصلح، في تصريح إلى منصة "المشهد" إن "الحكومة ليست مجبرة على اتخاذ خطوة رفع الدعم، لكن متطلبات الإصلاح وعودة الاستقرار الاقتصادي هي الدافع نحو اتخاذ خطوات عملية في اتجاه سد العجز". وتابع الصلح "يعاني الاقتصاد الليبي عجز ميزان المدفوعات الذي سوف يسبب ضغوطات على الأسعار في المستقبل وعجز نفقات، لذلك أساليب المعالجة الاقتصادية تتطلب اتخاذ جملة من الإجراءات الضرورية؛ لضمان سلامة الاقتصاد الوطني، لعل أبرزها التنسيق بين السياسات الاقتصادية المالية والنقدية". وفي سياق آخر، فإن اتخاذ القرار سوف يكون بالتنسيق بين المصرف المركزي ووزارة المالية والتجارة بحسب الصلح، "بمعنى آخر قد يكون هناك تخفيض في سعر الصرف الرسمي أو استخدام أسلوب الدعم النقدي المباشر". لافتاً إلى أن "هذا القرار متأخر جدا فقد كانت العديد من الدراسات السابقة الدولية أو المحلية تشير إلى ضرورة استبدال الدعم ومعالجة الملف بصورة تدريجية". بدوره، أوضح الكاتب الصحفي والمحلل السياسي السنوسي إسماعيل، في حديثه إلى منصة "المشهد" أن "هناك حالة غضب عامة موجودة بالأصل بسبب صعوبة الظروف الاقتصادية وارتفاع نسبة ذوي الدخل المحدود". وبحسب إسماعيل، الدخل لا يتناسب مع التضخم الحاصل نتيجة توسع الإنفاق العام، وهدر الفرص التي سنحت أمام ليبيا لتتجنب آثار حالة عدم الاستقرار السياسي على الاقتصاد الليبي المشوه بالقرارات الجزئية التي لا تعتمد خطة إصلاح شاملة.إشعال الشارع الليبي أثار قرار رفع الدعم عن المحروقات غضبا شعبيا واسعا في الشارع الليبي، وانطلقت تظاهرات في عدد من المدن الليبية، فيما دعا بعض ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي إلى جعل اليوم الجمعة تحت عنوان "جمعة وقود الغضب"، كما أشار بعض الناشطين إلى أن الشعب الليبي لم يتعاف بعد من آثار إعصار دانيال الذي ضرب البلاد، وأدى إلى مقتل وفقدان الآلاف، وتدمير مدن بأكملها. وفي ردود الفعل أيضاً، حذّرت الحكومة المكلّفة من مجلس النواب من تبعات رفع الدعم عن المحروقات، والتي ستؤدي إلى إشعال الشارع الليبي، والضغط على المواطن الذي يعاني بالفعل صعوبات معيشية. وأشارت الحكومة إلى عدد من النقاط أبرزها: لا يمكن اتخاذ قرارات كهذه من أي جهة بهذا الشكل المتسرع من دون دراسة تبعاتها والأبعاد والأضرار الناتجة عنها. نحن على عتبة شهر الخير والبركة، وما يمثله لليبيين من قدسية وما يتطلبه من حاجات أساسية، تستدعي منا التركيز والحرص على توفيرها وتخفيف العبء عنهم. لا يمكن أن تمس الحقوق المكتسبة للشعب الليبي إلا بقوانين وتشريعات تصدر من السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد. من جهته، عدّ أسامة حمّاد، رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب، أن حكومة الدبيبة في طرابلس منعدمة الشرعية لانتهاء ولايتها، وبالتالي بطلان كل ما تصدره من قرارات. وحول ردود الفعل الشعبية لفت الصلح إلى أن"مثل هذه القرارات قد تؤدي إلى موجة احتجاجات كبيرة، وذلك لأن الناس ضد التغير وهذا ما جرت العادة عليه، وهي من أهم التحديات القائمة في ملفات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي". ورأى الصلح في حديثه لـ"المشهد" أن "القرارات الإصلاحية خصوصا التي تمس المجتمع قد ينتج عنها خسائر سياسية لذلك فإن الحكومات المتعاقبة تحاول كسب الناخبين من خلال النفقات وتقليل الضرائب وغيرها". في المقابل، لفت إسماعيل إلى أن"قرار حكومة الدبيبة في طرابلس رفع الدعم عن المحروقات من دون حزمة إصلاحات كاملة سيؤدي حال تتفيده إلى موجة من الغضب غير المسبوقة". وأضاف في حديثه لـ"المشهد" أن "الغضب نتيجة التأثير المباشر الذي سيجعل غالبية المواطنين في وضع يصعب عليهم شراء الوقود لسياراتهم الخاصة مع انعدام أو تردي قطاع المواصلات العامة في أغلب مناطق ليبيا وسيصبح التنقل مكلف جدا"، مشيرا إلى أنه قد يضطر المواطن ‘إلى إنفاق كل أو جل مداخيله على المحروقات، وهذا يضاعف المعاناة، حتى لو دفعت قيمة مالية لدعم المواطن التي لن تفيده في مواجهة التضخم. وارتفاع الأسعار العام الذي سيصاحب إجراءات رفع الدعم المزمعة.تهريب المحروقات في ليبيا تتكلف ليبيا بخسائر ما لا تقل عن 750 مليون دولار سنوياً بسبب عمليات تهريب الوقود غير الشرعية، لانخفاض سعره مقارنة مع دول الجوار، في وقت تنتج فيه ليبيا بالمتوسط 1.3 مليون برميل يومياً، ولديها خطة متوسطة المدى لزيادة الإنتاج إلى مليوني برميل يومياً. وفي نوفمبر العام الماضي، كشف تقرير أوروبي لـ"إنيرجي بورتال" عنن قلق متزايد لحكومة الوحدة الوطنية بشأن قضية تهريب الوقود والإصلاح المطلوب المتعلق بملف دعم الوقود. ولفت التقرير إلى صعوبة قيام الحكومات الانتقالية ما بعد 2011 بعميلة إصلاح دعم الوقود، مستشهدا بجهود الحكومات إبان عهد نظام القذافي، حيث جرى التخلي بسرعة عن محاولات زيادة أسعار الوقود لتجنب ردود الفعل الشعبية المحتملة. وبحسب التقرير فإن التركيز الحكومي الحالي على معالجة مسألة الإنفاق على الوقود، يكشف عن آمال في تحقيق قطاع الطاقة بليبيا، استقرارا ماليا وإعادة توجيه الموارد نحو مبادرات تنمية أكثر استدامة. ويشرح الخبير الاقتصادي الصلح أن "ليس هناك قرار رفع محروقات إنما هو قرار استبدال دعم محروقات لسد فجوة العجز الناتج عن الدعم، حيث إن هناك كميات كبيرة تستخدم لأغراض التهريب وأغراض البيع وغيرها". ويعتقد الصلح أن الرفع التدريجي لأسعار المحروقات هو عودة الاقتصاد للتوازن الاقتصادي بسبب تغير سعر الصرف الرسمي الذي حصل في بداية عام 2022 والذي أدى إلى تراجع القوة الشرائية ومطالبة المواطن برفع الأجور النقدية لمواجهة التضخم".وأنهى المحلل السياسي إسماعيل حديثه إلى "المشهد" قائلا: "هناك مشاكل تواجه حكومة الدبيبة بسبب عدم حصولها على ميزانية معتمدة من مجلس النواب وتوقف المصرف المركزي عن صرف بنود المشروعات والنفقات التسييرية والطوارئ وإعلان المصرف المركزي أنه سيكتفي بدعم بند المرتبات والدعم فقط من دون غيرهما واشترط وجود ميزانية محالة من مجلس النواب لكي يمول غير بنودها مشاريع حكومة الدبيبة ونفقاتها، وهذا أيضا جاء على خلفية التوسع في الإنفاق الذي مارسته الحكومة في طرابلس وشبه الفساد التي وردت من خلال تقارير ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية خلال العامين الماضيين". (المشهد)