تفرض غزّة نفسها كأهم ملف في لقاء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لنظيره المصري عبد الفتّاح السيسي في زيارته الرئاسية الأولى إلى القاهرة بعد 12 عاماً من العلاقات الدبلوماسية المتوتّرة بين الجانبين، التي وصلت في بعض مراحلها إلى تلويح كلا منهما بالقوة العسكرية بوجه الآخر. حرب غزة، وتداعياتها الإقليمية ومخاطر اتّساع رقعتها، وتأثيرها على استقرار التجارة وخصوصاً الطاقة في المنطقة، وعلى الرغم من أهمّيتها، إلا أنها لا تزال تشكل أحد الملفات المتقاطعة بين أنقرة والقاهرة، مع وجود العديد من الملفّات السياسية والاقتصادية ذات الاهتمام المشترك بينهما، وإن اختلفت رؤى الجانبين في بعض تفاصيل هذه الملفّات.شرق المتوسط والغاز تبقى قضية شرق البحر الأبيض المتوسط وغازه أحد أهم الملفات بالنسبة لأنقرة. فتركيا، غير المدرجة في منتدى غاز شرق المتوسط، الذي تقوده مصر وإسرائيل واليونان وقبرص ويهدف إلى استخراج وتسويق الغاز الطبيعي في المنطقة، تسعى إلى حجز مكانها في هذا المنتدى الاقتصادي الهام من خلال تحسين علاقاتها مع مصر وإسرائيل. هذا السعي دفع أنقرة إلى عقد اتفاقيات تفويض بحري مع ليبيا، لخلق توازن مع اليونان، لكنها جذبت رد فعل مصري معارض. وفي تصريحات سابقة، ذكر الرئيس إردوغان أنه من الممكن مناقشة حماية الحقوق والمصالح في شرق البحر الأبيض المتوسط مع مصر، قائلاً إنه "سيكون من المفيد لمصر توقيع اتفاقية تفويض بحري مع تركيا" على غرار الاتّفاق الليبي معها. وبرأي الكاتب والباحث المصري في العلاقات الدولية أحمد العناني خلال حديثه مع منصّة "المشهد" فإنه "من الناحية السياسية تسعى تركيا إلى ترسيم الحدود البحرية، والاستفادة من الثقل المصري في منطقة شرق المتوسط، وبناء مقاربات جديدة مع مصر والإمارات والسعودية للاستفادة من تجارة الغاز". وأضاف: "مصر أيضاً تسعى إلى تأسيس علاقات سياسية مستقرة مع كافة الدول، وهي ستستفيد من علاقتها مع تركيا الفقيرة بموارد الطاقة من خلال تصدير الغاز الطبيعي لها". لكن المحللون الأتراك يعتقدون أن مصر، التي شكلت منصة ثلاثية مع اليونان وجمهورية قبرص، لا تبدو عازمة على التصرف بشكل متسرع بشأن هذه القضايا، وهي التي وجّهت رسالة سابقاً إلى كل من أثينا ونيقوسيا مفادها أن عملية التطبيع مع تركيا لن تؤثر على التعاون القائم.ليبيا.. بوادر للحل؟تطالب مصر، التي ترى في عدم الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا أهم خطر على أمنها القومي، بانسحاب القوات الأجنبية من أراضي جارتها، بما فيها القوات التركية، ولكن التطبيع الأخير على خط أنقرة-القاهرة انعكس إيجابيا الملف الليبي والحوار الداخلي في البلاد. ويشرح الصحفي التركي المتخصص بسياسات تركيا الشرق أوسطية، علي كمال إرديم، في حديثه مع منصة "المشهد" أنه "رغم المكاسب الجزئية التي حققتها تركيا من دعم حكومة طرابلس، إلا أن تعميم هذه المكاسب على مستوى ليبيا ككل في ظل خصومتها لحفتر لا يزال في غاية الصعوبة، لذا فهي مضطرة على الاتّفاق مع حفتر بأي طريقة، لأن استمرارية المصالح التركية الناشئة من الاتفاقات التي وقّعتها مع حكومة طرابلس بحاجة إلى استقرار في ليبيا والاتفاق مع حفتر شرط أساسي لتحقيق الاستقرار المنشود". وأضاف: "بما أن مصر هي أكبر داعم لحفتر فإن تركيا مرغمة على التوصّل إلى اتّفاق مع القاهرة، والتعارض مع مصر لا يبدد فرص التوصل إلى اتفاق مع حفتر فقط، وإنما يهدد أيضاً مصالح أنقرة في شرق البحر المتوسط ككل، خصوصا وأن تركيا لا تجاور ليبيا قارياً، على عكس مصر المجاورة لها". من جانبه يرى العناني الخبير في ملفّات الشرق الأوسط أن "مصر تريد إحلال السلام في ليبيا وإبعاد خطر الاقتتال لأن الاستقرار في الداخل الليبي ينعكس بشكل مباشر على الدولة المصرية، ويضر التدخل الأجنبي بليبيا كدولة وجيرانها، والقاهرة لها بعض المطالب بالنسبة لرؤيتها السياسية في ليبيا، وأعتقد أنها محل اتّفاق واحترام من قبل تركيا لذلك فإن التعاون التركي المصري سينعكس إيجابا على الملف الليبي أيضاً".ما مصير "إخوان" مصر في تركيا؟مقابل الاهتمامات التركية السياسية والاقتصادية فإن ملف "الإخوان" يبقى محط تركيز القاهرة الأبرز، خصوصا مع وجود آلاف قادة الجماعة الفارين إلى تركيا. وعلى الرغم من إغلاق أنقرة للعديد من وسائل الإعلام وضبط تصريحات أعضاء الجماعة المعارضين لمصر، وتوجّه الكثير منهم إلى دول أخرى، لكن يبقى البعض، خصوصاً الحاصلين على الجنسية التركية منهم، داخل دائرة الرادار المصري. ويشرح العناني، أنه "منذ المباحثات الاستكشافية بين مصر وتركيا عام 2021، اتّخذت أنقرة خطوات إيجابية لناحية احترام السيادة المصرية وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية وقامت بإسكات الأبواق الإعلامية المحسوبة على "الإخوان"، وإغلاق العديد من القنوات التابعة للجماعة على أراضيها، وهذا يحقق لمصر مكاسب سياسية". وبحسب العناني فإن "الخطوات التركية إشارة واضحة إلى رغبة أنقرة في تطوير علاقاتها مع القاهرة، وهي ما أشارت إليها تصريحات الصادرة عن المسؤولين الأتراك، وهذا يعكس رغبة مشتركة في إقامة علاقة مستقرة بناء على الاحترام المتبادل". من جهته، يعتقد إرديم أن "مصر راغبة طبعاً في تطويق تأثير الجماعة على أمنها واستقرارها الداخلي". وفي حين يستبعد إرديم قيام أنقرة "بتسليم جميع المطلوبين من أفراد "الإخوان" للقاهرة، إلا أنها من خلال زيادة الضغوط عليهم تدفعهم إلى مغادرة البلاد، ومن المعروف أن مثل هذه الجماعات تفقد المزيد من القوة والقدرة على التأثير كلما ابتعدت عن بلدها الأم". بالمقابل، يمكن لأنقرة، وفق إرديم، أن تقوم بتسليم الأفراد المتورّطين في أعمال أو جرائم لمصر، وهو ما قامت به سابقاً في حالات فردية. تجمع تركيا ومصر علاقات تاريخية واجتماعية استمرت على مر التاريخ، حيث كانت المنافسة الإقليمية أيضاً أحد الأبعاد المهمة في هذه العلاقات، التي شهدت فترات من التوتر السياسي دون الانجرار إلى اضطرابات عميقة. ويأمل المحللون في كلا البلدين من أن تؤدي زيادة الثقة المتبادلة إلى إمكانية أكبر للتفاهم على القضايا الإقليمية، وخصوصاً ليبيا، واقتراح الحلول التي تؤدي إلى تحقيق مصالحهما المشتركة.(المشهد)