شهد مؤتمر ميونخ للأمن الذي عقد خلال الأسبوع الجاري اللحظة التي أخبرت فيها الولايات المتحدة أوروبا بشكل قاطع، أنها لا تستطيع الاعتماد على دعم دول المحيط الأطلسي. وجاءت الكلمة اللاذعة التي ألقاها نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس خلال المؤتمر وانتقد فيها بشدة التراجع الثقافي المزعوم في أوروبا والمملكة المتحدة، لتوضح بقوة هذا الانفصال المفاجئ بين واشنطن والعواصم الأوروبية.وفي تحليل نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس)، قالت المدير والرئيس التنفيذي للمعهد، برونوين مادوكس، ومديرة المملكة المتحدة في برنامج العالم التابع لتشاتام هاوس، أوليفيا أوسوليفان، إنه يتعين على المملكة المتحدة أن تتدخل الآن وتتولى دورًا قياديًا في الدفاع عن أوكرانيا والقارة، فهي واحدة من القوى العسكرية القليلة في أوروبا، كما أنّ أوروبا بها أقرب شركائها التجاريين فضلًا عن أنّ المنطقة مهمة للغاية لأمن المملكة المتحدة.وقالت مادوكس وأوسوليفان إنّ هناك 5 مجالات يجب أن تعطي لها المملكة المتحدة الأولوية الآن لدعم هذا الجهد: زيادة الإنفاق الدفاعيوأشارتا إلى أنه يجب أن تتخذ المملكة المتحدة موقف قيادة جدير بالثقة، ويجب أن تلتزم بإنفاق 2.5 % من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول العام المالي المقبل، وزيادته بعد ذلك. وترى مادوكس وأوسوليفان أنّ مراجعة الدفاع الإستراتيجية المقبلة للمملكة المتحدة، بقيادة اللورد روبرتسون، من المتوقع بالفعل أن تؤكد الأهمية العاجلة لزيادة الإنفاق الدفاعي- وتكرار النقطة التي أوضحها تقرير لمجلس اللوردات في خريف 2024 بأنّ المملكة المتحدة لديها ذخيرة كافية ليومين ونصف اليوم فقط من القتال المكثف. ويجب وضع التوظيف والاستثمار والمشتريات- بما في ذلك من الولايات المتحدة - في خطة متماسكة. والأكثر أهمية من ذلك، هو أنّ المملكة المتحدة تحتاج إلى الابتعاد عن الافتراضات التي تدعم الحرب على الإرهاب: القتال الاستكشافي ضد الأعداء من غير الدول، واستكمال الوجود العسكري الأميركي الأكبر بشكل متكرر.وترى مادوكس وأوسوليفان أنّ كيفية تمويل هذا الإنفاق الدفاعي تعدّ مشكلة تشاركها المملكة المتحدة مع الدول الأوروبية الأخرى. وبالنسبة للكثيرين- ومن بينهم المملكة المتحدة على الأرجح- فإنّ هذه الزيادة تعني المزيد من الاقتراض.وقالت المحللتان إنّ الدول التي قضت سنوات تتمتع بفوائد الأرباح الناتجة عن السلام، وأخذت المال من ميزانيات الدفاع لدفع تكاليف الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية والمعاشات، قد تفكر في التحول إلى الاتجاه الآخر، إلا أنّ هذا يشكل تحديًا سياسيًا صعبًا سوف يستغرق سنوات أو حتى عقود لتحقيقه. وعلى المدى القصير، سيسعى الكثيرون لاقتراض المزيد. وتعدّ حكومة المملكة المتحدة، التي تعمل وفقًا لقواعد مالية صارمة (رغم أنها فرضتها على نفسها)، في وضع جيد للمساعدة في توجيه مناقشة حول طرق القيام بذلك بشكل لا يتسبب في ارتفاع أسعار الفائدة.وبشكل أساسي، يعني هذا إقناع أسواق رأس المال بأنّ هذه الأموال مخصصة للدفاع وليس للإنفاق العام للحكومة. وقد يبحث الاتحاد الأوروبي بشكل عام تخفيف القواعد المالية التي كان يعمل بموجبها لأكثر من عقد من الزمن، ولكن هذه هي أيضًا تعدّ معضلة بالنسبة للدول القومية خارج الاتحاد الأوروبي. ولقد أثبتت لندن بالفعل أنها جاذبة للعديد من المحادثات غير الرسمية في المراحل المبكّرة بشأن ما إذا كان يمكن القيام بهذا من خلال سندات الدفاع أو بنوك تنمية الدفاع أو الاقتراض المشترك أو غيرها من الخطط. قوة حفظ السلام في أوكرانيا ومع ذلك، فإن الالتزام العسكري المستمر يتطلب ما هو أكثر من الإنفاق الجديد. وأعداد القوات البريطانية هي مصدر قلق كبير لا يمكن حله بين عشية وضحاها. وصرح رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، بأنه مستعد لنشر قوات بريطانية في أوكرانيا، حتى لو كانت متطلبات الالتزام غير واضحة حتى الآن (وحتى لو لم يتم التأكد من الاتفاق على تشكيل قوة حفظ السلام). وهذه هي الخطوة الصحيحة، إذا كان يريد أن يكون للمملكة المتحدة تأثير. ومع ذلك، فإنّ نشر المملكة المتحدة لقوات ليس أمرًا بسيطًا على الإطلاق. ولا تمتلك المملكة المتحدة ما يكفي من القوات للحفاظ على المساهمة المحتملة التي ستحتاج إلى القيام بها على المدى الطويل. وقد شكك قادة عسكريون سابقون مثل اللورد دانات في قدرة الجيش البريطاني على حشد حتى 10 آلاف جندي لأوكرانيا - حيث تقول كييف إنها بحاجة إلى قوة إجمالية تزيد عن 100 ألف جندي. ولمعالجة المخاوف بشأن عدد الجنود، ستحتاج المملكة المتحدة إلى التغلب على مشكلات صعبة وطويلة في ما يتعلق بالتجنيد والاحتفاظ بالجنود.وقالت مادوكس وأوسوليفان إنه بغضّ النظر عن هذا، فإنه سوف يتعين على القوات البريطانية العمل عن كثب مع الجيوش الأوروبية الأخرى. لكنّ بولندا قالت إنها لن تُسهم بقوات في أوكرانيا. وهذا يترك فرنسا فقط كشريك مهم- وحتى هناك، يوجد تغيير كبير محتمل في الحكومة يلوح في الأفق.التعاون مع أوروبا في تطوير صناعة الدفاع يبدو أنّ حكومة المملكة المتحدة وشركاءها في الاتحاد الأوروبي قد وصلوا إلى حدود إعادة ضبط العلاقات في فترة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويتعين على المملكة المتحدة أن تضع التعاون الدفاعي في صميم عملية إعادة الضبط هذه. هذا هو أحد المجالات التي يشترك فيها الجانبان في مهمة لتطوير قدراتهم العسكرية الخاصة وتمويل دفاعهم الخاص. يجب أن تكون هناك إعادة توجيه مشتركة لمعالجة المخاطر الجيوسياسية المشتركة معًا. وترى مادوكس وأوسوليفان أنّ الاستثمار الدفاعي الوطني مسألة مثيرة للجدل، حيث تقاتل الدول لحماية صناعاتها الخاصة. ولكن هناك مزايا للعمل معًا، وبعد ميونخ، فإنّ قضية التعاون أصبحت إجبارية.ولا ينبغي أن تركز إعادة الضبط الطموحة في مجال الدفاع والأمن فقط على المشاورات المنتظمة ومشروع "بيسكو" (التعاون المنظم الدائم، وهو جزء من سياسة الأمن والدفاع للاتحاد الأوروبي)، وإنما يجب أن يكون هناك إعادة توجيه مشتركة للتصدي للمخاطر الجيوسياسية المشتركة معا.جسر إلى الولايات المتحدة وربما أصيب ستارمر بالدهشة لتوافقه على ما يبدو بشكل جيد مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب- على الأقل من خلال الحكم على تصريحات ترامب. وتخضع هذه العلاقة لسرعة فريق ترامب ومتطلباته وعدم القدرة على التنبؤ بسلوكه؛ وسيعتمد الكثير على اجتماع ستارمر مع ترامب في واشنطن الأسبوع المقبل.لكنّ العلاقة تعتمد أيضا على سياسة الحكومة البريطانية المتمثلة في "عدم إزعاج أو إثارة الدب"، بمعنى، تجنب الاستفزازات غير الضرورية وإيجاد القضايا التي يمكن الانضمام إلي الولايات المتحدة فيها.وحتى الآن، سمح هذا النهج للمملكة المتحدة ببعض المساحة للابتعاد عن خط ترامب، على سبيل المثال في إسرائيل. كما أوضحت المملكة المتحدة أنها لن "تلعب كل كرة تدخل إلى الملعب" ولن تتفاعل مع كل ما يقوله البيت الأبيض. إنها إستراتيجية متعقلة، لكن نجاحها ليس تحت سيطرة المملكة المتحدة.واختتمت مادوكس وأوسوليفان تحليلهما بالقول إنّ المملكة المتحدة قد تضطر إلى الاختيار بين الولايات المتحدة وأوروبا في مرحلة ما. ويجب عليها، في الوقت الحالي، أن تواصل محاولة تحسين العلاقات مع الاثنين. والخطر الأكبر هو أن ينتهي بها الأمر بعلاقة سطحية مع كل منهما، ما يجعل طموحها للعمل كـ"جسر" بين الاثنين مجرد هراء. وتحسين العلاقات الدفاعية مع أوروبا على الفور هو بداية جيدة.(د ب أ)