"انفصام".. هي الكلمة التي تصف حقيقة الواقع في لبنان، أو في "لبنانَيْن" إذا جاز التعبير. لبنان الحرب والموت والدمار والقصف والمسيّرات، ولبنان السهر والحفلات والفرح والأعياد. ففي جنوب لبنان، الحرب قائمة بين "حزب الله" وإسرائيل والاستهدافات تتصاعد مع التهديدات المتزايدة من الطرفين بشأن مستقبل الجبهة. وفي المقابل، على بُعد كيلومترات قليلة فالوضع مختلفٌ تماماً، فالأجواء "ولعانة" في بيروت وجوارها بين سهرات وحفلات لأعرق الفنانين، وكأنّك في بلد آخر.من المؤكّد أن ما يحصل بعيدٌ كلّ البعد عن المنطق، وهو أمرٌ غير طبيعي، وقد نقول إنّها "ظاهرة لبنانيّة". فهل من تفسير علميّ لذلك؟"ظاهرة لبنانيّة" في قراءة عن هذه الظاهرة، يؤكّد الأستاذ الجامعي والاختصاصي في الأمراض النفسية والعقلية د. وائل سلامة لمنصة "المشهد" أنّ ما يحصل يُشكّل ظاهرة بالطبع ولكنّها ليست بجديدة، شارحاً: "في لبنان منذ 2019 تقريباً والأزمات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الطبيعية تتوالى وصولاً إلى ما يحصل في جنوب لبنان أخيراً. وهذا يُعرف من الناحية الاجتماعية بقدرة الأشخاص على تحمّل الضغوطات والمصائب أو التأقلم معها (resilience)، أمّا من الناحية النفسيّة فإنّها تُعرف بالتجرّد الحسّي الجماعي". ويوضح سلامة أنّه "غالباً ما تُصيب المشاكل النفسيّة فرداً واحداً نتيجة معاناته مع مرض نفسي معيّن، ولكن عندما يتعرّض مجتمع بشكل عام إلى مصائب متتالية يعتاد على أنّ هذا النمط هو الطبيعي. وبالتالي، بات اللبناني مبرمجاً على أنّ هذه هي الحياة الطبيعية وأنّه من غير المفروض أن يكون مرتاحاً وسعيداً. فاللبناني يعتبر أنّه لا يحقّ له أن يعيش الحياة الطبيعية المريحة كغيره من البشر نتيجة ما مرّ به، فحياة الرفاهية غريبة عنه". "اعتدنا الحرب"كلام سلامة تؤكّده ليال ياسين، ابنة منطقة الدلافة (جنوب لبنان)، قائلة لـ"المشهد": "تعوّدنا.. وبتنا مقتنعين أنّ هذه الحرب مستمرّة وستطول وأنّه علينا الاعتياد على ما يحصل كما اعتدنا على أزمة الدولار مثلاً. فكل يوم نسمع خرق جدار الصوت ونتعرّض للقصف بين الحين والآخر ونسمع الضربات وأصوات الاشتباكات التي تستهدف مناطق أخرى يوميًّا. ودائماً ما يسألوننا لماذا لم ننزح وما زلنا نعيش هناك رغم ما يحصل إلا أنّ لا نية لدينا بالإخلاء فـ"يلي بصير عالكل بصير علينا" والوضع لا يزال محمولاً". هنا، يُقارن سلامة بين الوضع في لبنان ودول أخرى، قائلا: "نجد أنّ في هذه البلدان هناك استقرار، والاستقرار بالنسبة إلى سكان هذه الدول هو الحالة الطبيعيّة. أمّا عند اللبناني فإنّ الطبيعي هو حالة عدم الاستقرار والأزمات. وبالتالي بالنسبة إلى اللبناني ليس هناك أي مبرّر أو سبب لعدم عيش الحياة الطبيعية حيثُ يمضي يومه بشكل عادي بالسهر واللقاءات والتجمعات". ويُعطي سلامة مثلاً على ذلك إذ يقول: "لو أنّ ما يحصل في لبنان حصل في أيّ بلد آخر فإنّ البلد بأكمله يُشلّ. والدليل مثلاً أوكرانيا، إذ وعلى الرغم من أنّ ليست كلّ المناطق فيها تتعرّض للقصف إلا أنّ الوضع ليس عاديًّا فيها ولا يُكمل الأوكرانيون في هذه المناطق حياتهم وكأنّ لا شيء يحدث. وحتى لو أنّ البعض يمضون أيامهم بشكل عادي، فإنّ النسبة ليست كبيرة وبالطبع لا تحصل علناً كما هي الحال في لبنان". هذا الوصف ينطبق أيضاً على إسرائيل، حيث إنّ الإسرائيليين يُعانون في مختلف المناطق والوضع شبه مشلول والدليل ارتفاع نسبة طالبي الدعم النفسي بشكل صادم يصل إلى 950%، وفق ما ذكرت جمعية الدعم النفسي الإسرائيلية. مشاهد الدمار باتت طبيعيةإذاً، حال اللبنانيين يختلف عن حال الشعوب الأخرى، فالصدمات النفسية المتتالية أوصلت اللبناني إلى أن يكون لديه هذا التجرّد الحسي الجماعي، حتى أنّ مشاهد الدمّ والقتل والدمار باتت طبيعية وعادية بالنسبة إليه. وفي هذا السياق، يشرح سلامة أنّ للتجرّد الحسّي نتيجة سلبيّة تتمثّل بزيادة التفرقة بين أهل الجنوب وباقي اللبنانيين ولذلك يجب ألا نستغرب في حال رأينا نوعاً من النفور لدى أهل المناطق الجنوبية لأنّه بالنسبة إليهم هم مَن يُعانون نتيجة الحرب، وفي المقابل يعيش باقي اللبنانيين حياة طبيعية. ولكن في الوقت عينه هناك الرأي الآخر الذي يتمثّل في أنّه لا يمكن شلّ البلد والحركة فيه وتركه يذهب نحو الانهيار أكثر. وعن ذلك نسأل الصحفية يارا الهندي، ابنة منطقة كفرحونة (قضاء جزين)، فتُشدّد على الانفصام الواضح بين ما يحصل في المناطق الجنوبية حيث مسقط رأسها وبين الحياة في المناطق الأخرى حيث تعيش، قائلة: "في بيروت أكمل حياتي اليوميّة بشكل عادي، أمّا في القرية فالقصف يستهدف الأطراف وأدى إلى نزوح عدد من العائلات وإلى تضرّر السياحة. هناك أرى القلق في عيون أبناء المنطقة صغاراً وكباراً، أمّا في بيروت فالوضع طبيعي جدًّا. أزور قريتي خلال عطل نهاية الأسبوع، ولكن كثراً من اللبنانيين يخشون زيارة مناطق الجنوب ويعتبرونها خطرة". بدورها تقول ياسين: "المناطق الأخرى غير متأثرة وكذلك اللبنانيون الذين يعيشون فيها لأنّ الحرب ليست شاملة وهي تطال مناطق معينة في الجنوب، ولا أشعر أبداً بالغبن ولا عتب لي على اللبنانيين الذين يعيشون حياتهم بشكل طبيعي في باقي المناطق فهم لا يتعرّضون للقصف وهذا من حقّهم. حتى أنّنا نحن اعتدنا الوضع رغم الضربات ونكمل حياتنا. ولو أنّني كنت مكان أي لبنانيّ في مناطق أخرى بعيدة عمّا يحصل لكنت أيضاً أكملت حياتي بشكل عادي". أضرار من نوع آخرأضرار الحرب لا تقتصر على الصعيدين الاجتماعي والنفسي، فلِم يحصل تداعيات كبيرة على الاقتصاد وخسائر بالمليارات. في هذا السياق، يتوقّع الباحث في الدوليّة للمعلومات محمد شمس الدين أن تبلغ خسارة لبنان خلال موسم الصيف نحو 250 مليون دولار نتيجة التراجع في أعداد القادمين إلى البلد، هذا في حال استمرّ الوضع على ما هو عليه. أمّا إذا تفاقمت الحرب فإنّ الخسارة ستكون بالطبع أكبر بكثير. أمرٌ يؤكّد عليه أيضاً الاقتصادي نديم السبع لـ"المشهد"، قائلاً: "ستكون الحركة أكثر من خجولة هذا الموسم وليست بالحجم نفسه كالعام الماضي خصوصاً أنّ السياح الأجانب لن يزوروا لبنان كعادتهم نظراً للتحذيرات التي يتلقونها من دولهم. ولكن، في حال تصاعدت التوترات وتوسّعت الحرب وتحوّلت إلى حرب شاملة طالت مناطق أخرى فسنشهد دماراً خلال الصيف والموسم السياحي سيتضرّر بالطبع".الدليل على أنّ لما يحصل تأثير كبير هو التراجع في أعداد الوافدين عبر المطار. فقد دخل إلى لبنان منذ بداية العام وحتى الآن مليون و139 ألف وافد عبر المطار، أمّا مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي فإنّ الرقم بلغ مليون و203 آلاف وافد، أي أنّ العدد تراجع بنسبة 5.3% عن العام الماضي هذا في الظاهر، وفق ما يؤكّد شمس الدين لـ"المشهد"، مضيفاً: "ولكن، في الواقع كان من المفترض أن يصل إلى البلد منذ بداية العام نحو مليون و453، وبالتالي إذا احتسبنا عدد الوافدين الذين كان من المفترض أن يدخلوا منذ بداية هذا العام، فيصل التراجع إلى 21% وهو رقمٌ كبير".إذاً، هناك مشهدان متناقضان في بلد واحد، واللبنانيون ينقسمون بين "الجنة" و"جهنّم".(المشهد - بيروت)