في محاولة للهروب من الواقع الأليم الذي يعيشه بعض الشباب في مصر، يلجأ من ضاقت بهم السبل لشقّ طريق مجهول تحفّه المخاطر من كل مكان.وعلى متن قوارب "الموت" التي ربما لا تصلح لأكثر من قضاء نزهة داخل البحر، يبدأ هؤلاء الشباب في خوض رحلة جديدة مع الحياة، حاملين معهم أحلامهم بحياة أكثر أمنا واستقرارا، خالية من الأوجاع التي عاشوها منذ صِغرهم، لكنّ هذه الأحلام قد تتبخّر في طرفة عين، عندما تفشل الرحلة ويغرق المركب بهم في عرض البحر، ومن هنا تبدأ المآسي والأحزان.آخر ضحايا ظاهرة الهجرة غير الشرعية داخل مصر، هو فقدان أكثر من 100 شاب في مقتبل العمر، وموت 40 في حادث غرق مركب قبالة السواحل اليونانية، كان متجها إلى إيطاليا وعلى متنه 750 شخصا من جنسيات مختلفة. مآسٍ عديدة خلّفها حادث هذا المركب داخل المحافظات المصرية، وبالتحديد في قرية أبراش التابعة لمحافظة الشرقية شمال شرق القاهرة، والتي فَقدت 36 من أبنائها دفعة واحدة على متن المركب الغارق، كانوا يرغبون في عبور البحر المتوسط إلى شواطئ إيطاليا أهالي المفقودين يتحدثون عن أسباب سفر أولادهم منصة "المشهد" التقت بعضا من أهالي هذه القرية الذين خيّم الحزن على وجوههم، للتعرف إلى تفاصيل سفر أولادهم بهذه الطريقة المحفوفة بالمخاطر، فتقول السيدة جيهان محمود، إنّ ابنها الذي يُدعى محمد ناصر، ويبلغ من العمر 22 عاما، ترك المنزل من دون علمها منذ قرابة عشرين يوما، وتفاجأت بعد ذلك باتصاله بها وهو في دولة ليبيا، يخبرها بأنه يحتاج لمبلغ مالي قدره (140 ألف جنيه مصري) أي ما يعادل (4500 دولار) ثمن تذكرة السفر إلى إيطاليا عن طريق البحر، وبعد انتهاء المكالمة قامت هذه السيدة ببيع كل ما تمتلك، لتدبير هذا المبلغ، وبعد أيام عدة ذهب إليها شخص لا تعرف عنه شيئا، أخبرها بأنه مندوب من قبل ابنها الموجود في ليبيا، وطلب منها المبلغ، ومن ثم قامت بإعطائه ال(140 ألف جنيه).وحول أسباب سفر نجلها بهذه الطريقة الخطرة، أوضحت السيدة أنّ نجلها متزوج ولديه طفلان، وكان يعمل في إحدى الشركات بمدينة العاشر من رمضان الصناعية، لكنّ المشكله أنّ راتبه الذي كان يتقاضاه قليل جدا، ولا يستطيع قضاء متطلبات زوجته وأطفاله، وحاول مرارا وتكرارا البحث عن عمل أفضل في أماكن أخرى، لكن ضاقت به السّبل ولم يجد عملا أفضل، ولهذا فكّر في السفر بهذه الطريقة الصعبة.أما أحمد يونس شقيق أحد مفقودي مركب اليونان، فيقول، إنّ أخيه يبلغ من العمر 28 عاما، وكان يعمل "نجارا"، لكنّ عمل النجارة توقّف منذ فترة كبيرة، وتعسّرت الأحوال المعيشية لأخيه الراغب في الزواج، وتحسين ظروفه المادية، ولم يجد أيّ عمل لكسب قوت يومه، فاضطر إلى أخذ قرض من أحد البنوك لتدبير فلوس السفر إلى إيطاليا، من أجل تحقيق أمنياته التي عجز عن تحقيقها في مسقط رأسه، وأكد أحمد أنه علم بغرق المركب الذي كان يستقله أخوه، عن طريق وسائل الإعلام، ولم يكن هناك أيّ وسيلة تواصل بينه وبين أخيه منذ ركوبه المركب. ما هي طريقة وصول الشباب إلى مراكب الهجرة غير الشرعية؟وحول طريقة سفر الشباب المصري والوصول إلى مراكب الموت التي تحصد أرواحهم بشكل مستمر، كشف جمال أحمد وهو من أهالي قرية أبراش لمنصة "المشهد"، عن طريقة سفر هؤلاء الشباب، حيث أكد أنّ الرحلة تبدأ بمبلغ زهيد جدا، ربما يكون 50 جنيها أو 100 جنيه مصري، يحصل عليها الشاب من أهله أو حتى يقوم بسرقتها، ثم يستقل سيارة من محافظة الشرقية يصل بها إلى محافظة الإسكندرية، ثم بعد ذلك يستقل سيارة أخرى يصل بها إلى محافظة مطروح المتاخمة للحدود المصرية-الليبية، ومن ثم يأخذ وسيلة مواصلات توصله إلى معبر السلوم الحدودي، ليعبر بعد ذلك إلى الأراضي الليبية، حيث يكون في استقباله هناك "سماسرة الهجرة غير الشرعية" الذين يقومون باصطحاب الشاب معهم إلى مكان يطلقون عليه "التخزين"، وهو مكان يتم فيه وضع الشباب لمدة معينة قد تصل إلى أسابيع أو شهور، إلى حين هدوء أمواج البحر من أجل ركوب المركب عندما يكون الطقس مناسبا.وتبدأ الرحلة غالبا بعد انتهاء فصل الشتاء، وأكد جمال أحمد أنه في هذه الفترة التي يوجد فيها الشاب في ما يسمى "التخزين"، يقوم السماسرة بالاتصال بذوي الشاب ويطالبونهم بدفع مبلغ (140 ألف جنيه مصري) نظير ثمن تذكرة نجلهم لركوب المركب، والسفر إلى أوروبا، ومن يرفض دفع هذا المبلغ يقوم السماسرة بقتل نجلهم وإرسال صورة جثته إلى أهله مباشرةً.ووفقا لشهادة جمال أحمد، فإنّ الأسباب التي تدفع هؤلاء الشباب للسفر بهذه الطريقة المحفوفة بالعديد من المخاطرة بأرواحهم، هي "الغيرة من ثراء الجيران والأقارب"، حيث يرى الشاب جاره يمتلك أموالا طائلة، وعقارات عديدة، بسبب سفره إلى أوروبا، وبالتالي يرغب في أن يكون ثريًا مثل جاره أو أحد أقاربه، وتسأل جمال أحمد إذا كان دافع السفر هو الفقر، فكيف يأتي الشاب بمبلغ ال(140 ألف جنيه) وإعطائه لسماسرة الهجرة غير الشرعية.ماهو الموقف الرسمي للدولة تجاه الحادثة؟وعلى المستوي الرسمي فقد أكدت وزارة الخارجية في مصر، أنها تقوم حاليا بالتنسيق مع السفارة المصرية في أثينا، بالتواصل مع الجهات اليونانية المعنية، للاطمئنان إلى أحوال الناجين، والعمل على الحصول على معلومات بشأن هوية المفقودين، ومن تمّ انتشالهم من الضحايا، إضافة إلى تشكيل مجموعة عمل خاصة للتعامل مع هذا الحادث الأليم، تتولى استقبال أسر الضحايا والمفقودين، للتوجيه بشأن الإجراءات المطلوب اتخاذها في إطار جهود التعرف إلى جثامين الضحايابرلماني مصري: هناك قوانين رادعة للحدّ من ظاهرة الهجرة غير الشرعية وفي تصريحات لمنصة "المشهد"، أكد عضو مجلس النواب المصري عاطف مغاوري، أنّ هناك تشريعاتٍ بالفعل تُجرّم هذه الظاهرة، ومن أبرزها أنه يعاقَب بالسجن المشدّد وبغرامة لا تقل عن 200 ألف جنيه مصري، ولا تزيد عن خمسمئة ألف جنيه، أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيّهما أكبر، كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين أو الشروع فيها، أو توسّط في ذلك، أما عقوبة السجن المشددة فتكون مدة لا تقلّ عن خمس سنوات، وغرامة لا تقل عن خمسمئة ألف جنيه، ولا تزيد عن مليون جنيه، أو غرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيّهما أكبر، إذا كان المهاجر المهرّب امرأة أو طفلا، أو من عديمي الأهلية، أو من ذوي الإعاقة.كيف تتم عمليات إرسال الأموال من المهاجرين للسماسرة؟ وكشف عضو مجلس النواب، عن أنّ السماسرة يتقاضون أموال المهاجرين عن طريق خاصية (الكاش)، عبر خطوط التليفونات المحمولة، لذا طالب الدولة بتشديد الرقابة وحركة الأموال على أرقام الموبايلات التي يتم إرسال وتحويل الأموال عبرها للمهربين، ووضع إجراءات صارمة ودقيقة على عمليات التحويل التي تتم عن طريق التليفونات المحمولة، مثل ما يحدث بتحويل الأموال عبر البنوك، إضافة إلى رفع درجات الوعي لدى الأسر المصرية، وتوفير المزيد من فرص العمل للشباب، حتى لا يقعوا فريسة لتجار الموت، بالإضافة إلى تكثيف الدوريات الأمنية والمنتظمة لمراقبة الشواطئ المصرية، لهدم فكرة تجميع الشباب للوصول إلى موقع ارتكاب الجريمة وكشف مغاوري عن وجود مقترح لديه، سوف يقوم بطرحه داخل مجلس النواب خلال الأيام المقبلة، للحدّ من تلك الظاهرة، وهو كيف تقيم مصر جسور تواصل مع أوروبا لتوظيف الشباب داخل بلدان هذه القارة، وذلك لأنها تحتاج للكثير من الأيدي العاملة، نتيجة لوجود خلل كبير في التركيبة السكانية داخل المجتمعات الأوروبية، بسبب انخفاض النمو السكاني هناك، ما يجعلها في حاجه للأيدي العاملة، ومن ثم تكون عمليات الهجرة منظمة عبر قنوات شرعية، وعلى أوروبا أن تقدّم مِنحا ودعما للحيلولة دون وصول المهاجرين إليها بطرق غير شرعيةوطالب مغاوري بسرعة إحلال سُلطة حاكمة في ليبيا، لأنها أصبحت بؤرة جاذبة لكل المنظمات غير الشرعية، في ظل وجود ميليشيات تُنمّي أموالها ومواردها المالية عبر الإتجار بالبشر، وتوفير الحماية لتجار الموت الذين ينظمون الهجرات، مؤكدا وجود سجون وملاجئ تخزين لهؤلاء المهاجرين داخل الاراضي الليبية، تحت حماية هذه الميليشيات.ويوضح محمود عيد وهو مصري مقيم في إيطاليا، أنّ التعامل مع مراكب الهجرة غير الشرعية من جانب الدول الأوربية، أصبح مختلفا بشكل كلي عن السابق، ففي الماضي كان يتم التعامل مع هذه المراكب بشكل إنساني، من قبل مراكب الإغاثة الدولية، التي كانت توجد بشكل دائم على حدود سواحل الدول الأوروبية، للتعامل مع المهاجرين بشكل آدمي، وتقديم سبل الدعم كافة لهم، من غذاء ودواء، لحين البتّ في أمورهم. وربما في بعض الأحيان كانت مراكب الإغاثة الدولية تقوم بنقل المهاجرين من المركب الذي يستقلونه في حال تهالكه، أو عندما يقترب من الغرق، إلى مراكبهم الخاصة، لحماية هؤلاء المهاجرين من المصير المجهول، أما اليوم فلم يعد لمراكب الإغاثة الدولية أيّ وجود في محيط الحدود الساحلية للدول الأوروبية، ومن ثم يتعرض المهاجرون لمختلف المضايقات من قبل خفر السواحل الأوروبية، وفي بعض الأحيان يتعمّدون إغراق مراكب المهاجرين، لذا طالب محمود عبيد الشباب بعدم الانجراف وراء وهم الهجرة غير الشرعية مطلقا، لأنّ المصير أصبح مأسويًا.وطبقا للإحصاءات الرسمية، فإنّ هناك 43 مصريا قد نجوا من غرق هذا المركب، الذي كان يُقلّ قرابة 750 شخصا من مختلف الجنسيات، ولا يزال هناك قرابة 100 مصري في تعداد المفقودين إلى الآن، مع التأكيد على وفاة 40 شابا.(المشهد)