في ظاهر الأمر، تبدو هجمات المسلحين "الحوثيين" على السفن في البحر الأحمر بمثابة نسخة مكبرة من حادثة إيفرغيفن في عام 2021، حينما علقت سفينة الحاويات في قناة السويس وأغلقتها لمدة 6 أيام، حيث كثر الحديث وقتها عن هشاشة العولمة واختناق سلاسل التوريد، بحسب ما جاء في تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز". لكن، على الرغم من أن هجمات "الحوثيين" تُهدد بكارثة إنسانية لملايين اليمنيين والسودانيين الذين يعتمدون على المواد الغذائية المستوردة وغيرها من المساعدات، فمن غير المرجح أن يكون لها تأثير كارثي على التجارة العالمية في الوقت الراهن.وتعمل صناعة شحن الحاويات بقدرة منخفضة، ومن المقرر إطلاق العديد من السفن في العامين المقبلين، مما يعني أنها تستطيع استيعاب تكلفة الرحلات الأطول حول إفريقيا حتى لو استمرت الأزمة في البحر الأحمر. ويقول رايان بيترسن، الرئيس التنفيذي لشركة فليكسبورت للشحن والخدمات اللوجستية: "هناك قدر كبير للغاية من طاقة الشحن قيد التشغيل، بحيث تتساوى الزيادة في الأسعار على المدى الطويل".دور أميركا لحماية الملاحةنجت الطفرة التي شهدتها تجارة السلع في فترة ما بعد الحرب الباردة، من سلسلة كاملة من صدمات العرض في السابق، بحسب ما تقول "فايننشال تايمز"، مشيرة إلى الإجراءات الأمنية الصارمة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، وتفشي مرض سارس وإنفلونزا الطيور في العقد الأول من القرن الـ21، والسحابة البركانية الأيسلندية في عام 2010 والتي أغلقت جزءًا كبيرًا من المجال الجوي الأوروبي، ووباء كورونا، والحرب في أوكرانيا. وكان الارتفاع الحاد في أسعار الشحن واضطرابات الموانئ في الفترة 2021-2022، مرتبطًا بشكل أكبر بارتفاع الطلب الاستهلاكي مع تعافي العالم من الصدمة الأولية لفيروس كوفيد، وليس صدمات العرض للنظام التجاري، وفقا للتقرير، مؤكدا أن هناك العديد من العوامل التي تفسر هذه المرونة الرائعة، ولكن العامل المهم هو الدور الذي لعبته أميركا على مدى العقود الأخيرة في إبقاء ممرات الشحن مفتوحة، وخاصة من خلال تطهيرها من القراصنة.ووفق التقرير، لم تفعل أميركا ذلك بمفردها بالكامل؛ فقد اجتذبت حملتها لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال، على سبيل المثال، المساعدة من عشرات الدول الأخرى. لكن مركز أبحاث التنمية العالمية يقول إن الولايات المتحدة تساهم بنسبة 0.2% من الدخل القومي الإجمالي لحماية المياه الدولية، مقابل 0.015% فقط في المتوسط من أقوى 40 دولة في العالم. ويعتبر التقرير أن هجمات "الحوثيين" أكثر شدة من هجمات القراصنة الصوماليين، ولكن الخطر الأكثر إلحاحاً أنهم مدعومون من دولة مثل إيران، وهذا قد يؤدي إلى احتمال اندلاع حروب إقليمية واسعة النطاق في المستقبل. ويكمن الخطر الأكبر على التجارة العالمية، في توسع الصراع بالشرق الأوسط، أو اندلاع صراع في تايوان، أو زعزعة الاستقرار على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي بسبب الصراع الدائر في أوكرانيا، حيث إن حدوث ثوران في أي من هذه المناطق قد يدفع العولمة إلى الاتجاه المعاكس، ويضع في تناقض صارخ اعتماد العالم على القوة العسكرية لمواجهة هذه التحديات. وتؤكد "فايننشال تايمز" أن الاستعانة بقوة عسكرية عظمى لا يمثل حدثا جديدا، حيث تاريخيا تم نشر القوات البحرية لإنشاء أو الحفاظ على طرق التجارة، ولكن على الجانب الآخر فإن الحروب أو المنافسات البحرية لها تداعيات غير جيدة تتمثل في عرقلة التجارة العالمية."التجارة تتبع العلم"في القرون السابقة، كان القول المأثور إن "التجارة تتبع العلم" يشير إلى أن التجارة تسير جنبا إلى جنب مع التوسع الاستعماري، إذ كان التمييز بين البحرية التجارية والبحرية العسكرية غير واضح في كثير من الأحيان. واستخدم القائد العسكري أوليفر كرومويل، عندما كان حاميا لإنجلترا واسكتلندا وأيرلندا في منتصف القرن الـ17، القوة البحرية لحماية وتوسيع التجارة بطريقة أكثر انتظامًا من ذي قبل، حيث نشر البحرية الإنجليزية ضد هولندا لتحدي هيمنتها على التجارة البحرية، واستخدم أيضًا القوة البحرية المدعومة بشكل مباشر من الدولة، للاستيلاء على جامايكا من إسبانيا والحصول على موطئ قدم إمبراطوري في منطقة البحر الكاريبي. وبحلول القرن الـ19، عندما كانت البحرية الملكية هي الأكبر في العالم، كانت تؤدي أيضًا شيئًا من الصالح العام من خلال قمع القرصنة في جميع أنحاء العالم. والمعروف أن الأعوام من 1870 إلى 1914 كانت العصر الذهبي الأول للعولمة. لكن الجانب المظلم للقوة البحرية كشف عن نفسه خلال هذه الحقبة، إذ ساهم التنافس البحري الإمبراطوري بين بريطانيا وألمانيا في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 بشكل كبير في اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أنهت العصر الذهبي. وكان لهذا بعض الأصداء حتى الآن، إذ صعدت البحرية الأميركية خلال العقود لتصبح القوة البحرية الأكثر هيمنة في العالم، لكن بحسب "فاينانشال تايمز"، فإن التنافس بين القوى المسلحة في الوقت الحالي قد يُهدد العولمة مرة أخرى. وكانت الصين، المنافس الجيوسياسي والتجاري الرئيسي للولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، تعمل على بناء قواتها، ولديها الآن أكبر قوة بحرية في العالم على الرغم من عدم وجود شبكة عالمية من المحاور والقواعد مثل الولايات المتحدة. وفي كل الأحوال، فإن الموقع الواضح للصراع المزعزع للاستقرار في المستقبل يقع على بعد 150 كيلومتراً فقط من الساحل الصيني. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتنويع إنتاج أشباه الموصلات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ستظل تايوان مركزا لا غنى عنه لصناعة الرقائق في العالم.ومن المرجح أن يتضمن أي صراع يتعلق بتايوان حصارًا بحريًا صينيًا بقدر ما ينطوي على غزو بري كامل. وسوف تتقلص قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على الممرات البحرية المفتوحة إذا أصبحت العوائق ذات دوافع سياسية أكثر وطويلة الأمد، وفقا لما جاء في التقرير.تقلص القوة البحرية الأميركيةبعد الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام، بلغ حجم البحرية الأميركية ذروته في عام 1987 حيث بلغ حجم الأسطول نحو 594 سفينة. لكن، الآن تمتلك البحرية الأميركية نصف هذا العدد، 299 سفينة. ويوضح تود هاريسون، وهو زميل بارز في معهد أميركان إنتربرايز السبب وراء ذلك قائلا: "لقد أصبحت تكلفة تشغيل وصيانة سفننا أعلى بكثير. وعلى الرغم من أن ميزانية الدفاع أعلى اليوم مما كانت عليه في ذروة الحرب الباردة، وحتى عندما تتكيف مع التضخم، فإننا غير قادرين على تحمل تكاليف عدد كبير من السفن كما كنا لأن تكاليفنا كبيرة". وتضع خطة بناء السفن الأميركية لعام 2024 تصورا بأن يكون لديها أسطول مكون من 367 سفينة مأهولة بحلول عام 2054، لكن أيضا يُحذر المحللون من أن البحرية ستواجه تحديات على المدى القصير في الوقت الذي أصبح فيه الدفاع عن طرق الشحن أكثر أهمية. إلى جانب ذلك، هنام تحديات ترتبط بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى، وما إذا كانت إدارته ستلعب ذات الدور الحالي.ومن المتوقع أن تستمر البحرية الأميركية في شن حملات لمكافحة القرصنة، لكن عداء دونالد ترامب تجاه تايوان، قد يجعله مترددًا في الاستمرار في حمايتها. ويشعر ترامب بالاستياء من العبء الأمني الذي تتحمله الولايات المتحدة، وقد هدد خلال فترة ولايته الأولى بمغادرة حلف شمال الأطلسي ما لم يساهم الأعضاء الآخرون بشكل أكبر في عملياته. وزاد العديد من الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي الميزانيات العسكرية في أعقاب دعوة ترامب، ويتوقع الحلف أن تحقق 11 دولة هدفها المتمثل في إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع في عام 2023، ارتفاعا من 7 دول في العام السابق.الاعتماد على أميركاومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن ترغب أي دولة في تولي المسؤولية بشكل كامل. وفي حين كثف حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي عملهما بشأن قضايا الأمن البحري في السنوات الأخيرة، إلا أن تركيزهما ينصب بشكل أساسي على حماية الطرق التجارية المرتبطة بأوروبا، مثل الخليج والبحر الأبيض المتوسط وبحر البلطيق والقطب الشمالي. ويُحذّر المسؤولون الغربيون المشاركون في المناقشات حول الأمن البحري من أن حجم النوايا الجغرافية أقل بكثير مما تقدمه الولايات المتحدة على مستوى العالم، وأن التكثيف لا يرتبط بشكل مباشر بالمخاوف من أن تؤدي رئاسة ترامب إلى خفض كبير في الوجود البحري الأميركي. ويقول أحد كبار الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي لصحيفة "فايننشال تايمز": "لا يمكننا أن نحل محل الأميركيين، لكننا نعلم أن ترامب سوف يثير على الأقل نقاشا حول كيفية القيام بالمزيد. لذلك نحن بحاجة إلى الاستعداد لما قد يبدو عليه الأمر". ووافق الاتحاد الأوروبي هذا الشهر على نشر مهمة مشتركة في البحر الأحمر ردًا على هجمات "الحوثيين" على السفن، ومن المقرر أن يتم بناؤها على أساس مهمة بحرية أوروبية مشتركة موجودة بالفعل في مضيق هرمز. ويأتي ذلك جنبًا إلى جنب مع عملية "الناتو" البحرية في البحر الأبيض المتوسط، ودوريات مكافحة القرصنة قبالة ساحل بحر العرب في إفريقيا، وتركيز الحلف المتزايد على حماية البنية التحتية الحيوية تحت سطح البحر.أما بالنسبة للصين نفسها، فقد انضمت إلى بعض جهود مكافحة القرصنة، لكنها رفضت بشكل ملحوظ المشاركة في حماية البحر الأحمر من "الحوثيين". وفي الواقع، منذ أن أعلن "الحوثيون" أنهم سيهاجمون إسرائيل وحلفاءها فقط، استفادت سفن الحاويات الصينية من القدرة على مواصلة المرور عبر قناة السويس مع تقليل خطر التعرض لإطلاق النار. وقد لا تؤثر الهجمات في البحر الأحمر على العولمة بشكل كبير، لكنها تذكرنا بأن التجارة العالمية، في الوقت الحالي، لا تزال تعتمد على الولايات المتحدة كقوة عسكرية عظمى، لكن مواقفها الجيوسياسية، مثل دعمها لإسرائيل، تمثل مصدرا لانعدام الأمن في نفس الوقت، بحسب "فايننشال تايمز". ويشير التقرير على أن الدرس المستفاد من التاريخ هو أن الفترات الطويلة من التجارة البحرية السلمية التي تدعمها قوة عسكرية مهيمنة يمكن أن تنقلب رأسا على عقب بسرعة، "ومن الحماقة أن تتصور الحكومات أن ذلك لا يمكن أن يحدث في الوقت الراهن". (ترجمات)