رغم مرور نصف قرن على رحيلها إلا أنه لم يستطع أحد أن يتخطى نجوميتها، ولا تزال سيرتها على ألسنة عشاقها وكأنها لم تبعد عن عالمنا، صوتها العذب أبهر آذان الملايين من كل حدب وصوب حول العالم، إنها سيدة الغناء العربي وكوكب الشرق أم كلثوم، التي ظلت متربعة على عرش الأغنية العربية لعقود بلا منازع.ويحتفل المصريون وغيرهم من العرب والعجم بذكرى مرور 50 عاماً على وفاة كوكب الشرق، تاركةً وراءها إرثاً فنياً كبيراً يتناقله كثيرون جيلاً بعد جيل، ولا تزال أغانيها تصدح في الشوارع المصرية، وفي المقاهي وداخل المنزل وكأنها تؤنس من يريد أن يسمعها ويردّد كلماتها.أم كلثوم.. أيقونة صامدةولدت أم كلثوم في 4 مايو عام 1904، بقرية طماى الزهايرة التابعة لمحافظة الدقهلية بمصر، واسمها الحقيقي فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، ونشأت وترعرعت في أسرة متواضعة الحال، وكان والدها يعمل إماماً ومؤذناً بأحد مساجد القرية التي ولدت فيها، لاحظ والدها موهبتها في الغناء منذ طفولتها، فعكف على تعلميها القصائد والتواشيح الدينية.ونتيجة لصوتها القوى وتميزها بدأت مشوارها بالغناء في حفلات صغيرة داخل قريتها الصغيرة، ولكن لم تكتف بذلك فكانت تسافر إلى القرى المجاورة لحضور الحفلات حتى ذيع صيتها وانتقلت بعد ذلك إلى العاصمة القاهرة، وبدأت الغناء هناك من دون فرقة موسيقية، لتشق طريقها وسط كبار الفنانين حتى صارت رمزاً للموسيقى العربية.وفي تصريحات خاصة لمنصة "المشهد" يصف الناقد الفني المصري طارق الشناوي أم كلثوم بالموهبة الاستثنائية التي تمثل رمزاً للفن الراقي، مضيفاً أنها كانت تملك عقلاً راجحاً نجح في إدارة هذه الموهبة، وتعد واحدة من أعظم المطربات في تاريخ الموسيقى العربية، بصوتها القوى وأدائها المتميز، كاشفاً أنها لم تكتف بالموهبة الربانية التي أعطاها الله إياها، بل عملت على تنمية هذه الموهبة من خلال التدريب المكثف والاجتهاد المستمر والغناء المتقن، وهو ما جعلها تستحق عن جدارة لقب كوكب الشرق.وحول أسباب وجود كوكب الشرق حتى الآن واهتمام الجمهور بالاستماع إلى أغانيها، يقول الشناوي:أم كلثوم لم تستسلم لما يطلق عليه قيود الزمن، ومعناها أن المبدع يقدم الأعمال الفنية نفسها بتنوعات أخرى يتقبلها الجمهور، لكنها لم تفعل ذلك بل كانت تتطلع دائماً إلى التجدد والتغيير وذلك من خلال الأفكار الجديدة والملحنين الجدد.كانت تجيد معرفة وفهم الشعر والموسيقى وبالتالي ساعد هذا على اختيار أغانيها ومناقشة ملحنيها في أدق التفاصيل، وقامت بالغناء للكثير من الشعراء العرب أمثال أحمد بكثير الشاعر اليمني المعروف، والشاعر السوري الكبير، بالإضافة إلى الأمير والشاعر عبد الله الفيصل من المملكة العربية السعودية.أم كلثوم وفلسطينويرى الشناوي أن سيدة الغناء العربي كانت لها علاقة وطيدة وخاصة بفلسطين وشعبها، وحاولت مناصرة القضية الفلسطينية، حيث كان صوتها يدوي في أرجاء المدن الفلسطينية وكانت تحرص دائماً على السفر إلى فلسطين وقد زارتها للمرة الأولى عام 1928، وغنت على مسرح عدن بالقدس، ثم توالت زياراتها بعد ذلك بين أعوام 1931 و1935. وكشف أن السبب في إطلاق لقب كوكب الشرق على أم كلثوم هي سيدة فلسطينية، وذلك حينما كانت تغني أم كلثوم في مدينة حيفا تفاجأت بسيدة تهتف بمقولة (أنتِ كوكب الشرق)، ومنذ ذلك الحين عُرفت أم كلثوم بهذا اللقب الذي اشتهرت به حتى اليوم.وذكر أن "من أبرز أغانيها لفلسطين وقضيتها العادلة ضد الاحتلال الإسرائيلي (أصبح عندي الآن بندقية ) وهي من ألحان محمد عبد الوهاب وتتحدث الأغنية عن تحية الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي".حفيد أم كلثومعدلي سمير أحد أحفاد سيدة الغناء العربي يروي لنا بعضاً من حياتها الخاصة التي كانت بعيدة عن الأضواء، حيث يقول إن أم كلثوم كانت تتمتع بالطيبة الشديدة وحبها ووفائها الكبيرين لأقاربها، مضيفاً أنها كانت تتكفل بالكثير من أهالي قريتها وعائلتها عبر تقديم المساعدات المادية وغيرها من الأمور الإنسانية، واصفاً إياها بالفنانة الإنسانة، مؤكداً أن السبب في تكوين شخصيتها هو والدها رحمة الله عليه الشيخ إبراهيم البلتاجي، الذي كان حافظا للقرآن الكريم ويعمل مؤذناً وإماماً بأحد المساجد.وأشار عدلي إلى أن الرؤساء والملوك كانوا يدعون سيدة الغناء العربي إلى مجالسهم من أجل الاستماع إلى صوتها العذب، وكانت تقوم بإحياء حفلات خاصة لهم ولذويهم، كاشفاً أنها كانت تقرأ القرآن الكريم في تلك الحفلات حيث كانت تتمتع بصوت شجن في قراءة القرآن، وكانت تحظى باحترام هؤلاء الملوك والرؤساء.وكشف عدلي أن سيدة الغناء العربي كانت لها طقوس خاصة قبل صعودها على خشبة المسرح للغناء أمام الجمهور، وكان من أبرز هذه الطقوس قراءة القرآن الكريم، والنظر إلى الجمهور من خلف الستارة الخاصة بالمسرح قبل الصعود عليه، مشيراً إلى أنها دائما ما كانت تشعر بالخوف والرهبة قبل الغناء.وطالب حفيد سيدة الغناء العربي بضرورة عمل متحف لها داخل منزلها الذي ما يزال قائماً حتى اليوم في قريتها، لكي يتسنى للزائرين الذين يقصدون هذا المنزل إلى اليوم من كافة دول العالم الاستمتاع بمقتنياتها التي تركتها.مواقف وطنيةولفت الناقد الفني طارق الشناوي أن من بين أبرز أعمدة نجاح أم كلثوم هو تعاملها مع الجمهور، حيث كانت تتمتع بعلاقة خاصة للغاية مع جمهورها لم نرها مع أي مطرب أخر مع جمهوره، مؤكداً أنها كانت قادرة على فك تفاصيل الحياة من خلال انحيازها لاختيارها للأغاني لأنها مع موجة مع الجمهور، وحينما تقف على خشبة المسرح وتغني فمن الممكن أن تعيد (الكوبليه) أكثر من مرة حباً في جمهورها التي كانت تتشبع به.ووفقاً الشناوي فلم يكن حب الوطن لدي سيدة الغناء العربي يتوقف على الأغاني فحسب، ولكن كان هذا الحب حقيقياً صادقاً على أرض الواقع، فعقب النكسة التي لحقت بمصر في عام 1967 وكان له جهود حثيثة في عملية بناء الجيش المصري، وذلك عبر التبرع بأموال حفلاتها الغنائية التي كانت تعقدها آنذاك سواء داخل مصر أو خارجها لصالح المجهود الحربي، وهو ما يؤكد على حبها لوطنها.وبحسب الشناوي فإن دور أم كلثوم الوطني لم يقتصر فقط على مصر، بل امتدد للعديد من الدول العربية، وكان من بينه ما ذكره الشناوي أنه عندما حدث زلزال مدمر في مدينة أكادير بالمغرب خلال ستينات القرن الماضي، ذهبت أم كلثوم إلى المغرب وأقامت حفلاً غنائياً كبيراً حضره الآلاف من عشاقها هناك، وبعد انتهاء الحفل قامت بالتبرع بحصيلته إلى أهالي ضحايا ومصابين هذا الزلزال، موضحاً أن هذا الموقف يؤكد أن أم كلثوم لم تكن تتفرد بصوتها العذب فقط، بل كانت لها مواقف وطنية جديرة بالاحترام تجاه الدول العربية.مسلسل أم كلثوموتخليداً لذكرى سيدة الغناء العربي، عكف صناع الدراما في مصر على عمل فني يروي السيرة الذاتية لها، ويكون مرجعاً درامياً لكل من يريد التعرف عليها، وفي هذا الصدد تقول مخرجة المسلسل الذي حمل عنوان (أم كلثوم) المخرجة المصرية القديرة إنعام محمد على في حديثها لـ"المشهد"، إن: هذا المسلسل يعد بمثابة نقطة مضيئة في تاريخ العمل الدرامي في مصر والوطن العربي.رغم مرور نحو 25 عاما ًعلي عرض المسلسل إلا أن الجمهور لا يزال مرتبطاً بهذا العمل الفني الرائع الذي جاء من أجل تكريم مسيرة سيدة الغناء العربي الحافلة بالعديد من الانجازات والنجاحات.خطوة إقدامي على إخراج عمل درامي لسيدة الغناء العربي لم يكن بالأمر اليسير، بل كان القلق يعتريني.أم كلثوم أسطورة غنائية وقامة فنية قلما يجود الزمان بمثلها، لم تكن مجرد مطربة مصرية فقط، بل كانت رمزاً الغناء العربي بأكمله.(القاهرة - المشهد)