بإصرار من أبنائه غادر الحاج صادق منزله الكائن في أرياف مدينة باجة شمال غرب تونس ليستقر بالعاصمة، لم يكن القرار سهلًا بالنسبة للرجل الذي أمضى أكثر من ثمانية عقود من حياته بين الجبال والسهول الخضراء، لكنّه وجد نفسه مجبرًا على ذلك بعد أن احترقت مساحة شاسعة من أرضه الصيف الماضي، وكاد الحريق أن يأتي على بيته وقطيع ماشيته، فوّت الحاج صادق في ما تبقّى له من ماشية كما يؤكد لمنصّة "المشهد"، فقد أصبح إطعامها مكلفًا، " ليس هناك مرعى.. الأرض صارت جرداء بفعل الجفاف وأسعار العلف مرتفعة"، يقول المزارع التونسي.عانى الشيخ صادق صعوبة توافر الماء الصالح للشراب، بعد أن جفّت أقرب حنفية لبيته وصار أبناؤه المقيمون بالعاصمة مجبرين على التحوّل نهاية كل أسبوع للضيعة، لتوفير كميات من الماء تكفيه لأيام معدودة قبل أن يعلموه بأنه حان وقت المغادرة. ومثل الحاج صادق يعاني كثير من سكّان الأرياف في تونس انعكاسات الجفاف الذي ضرب أراضيهم وجعلها غير صالحة للزراعة ومن ارتفاع كبير لدرجات الحرارة صيفًا، كثيرًا ما يتسبّب في نشوب حرائق هائلة أتلفت مساحات شاسعة. وتعاني تونس منذ أعوام التغيّرات المناخية وضربت موجة جفاف أراضيها منذ نحو أعوام متسبّبة في جملة من المشاكل التي عمّقت أزمتها الاقتصادية الحادّة. البحث عن لقمة العيش في تونسويعدّ البحث عن لقمة العيش الدافع الرئيسيّ وراء نزوح الآلاف من سكان الأرياف التونسية إلى العاصمة ومدن الساحل بشكل عام، ويحتل صدارة أسباب الهجرة الداخلية في تونس بنسبة 64%. ويقول أستاذ الجامعة التونسية حسان قصار، إنّ الهجرة المناخية ستكون أبرز أشكال الهجرة خلال الأعوام القادمة في العالم وفي تونس أيضًا. ويوضّح الأستاذ الجامعيّ الذي سبق له أن أنجز دراسة بالتعاون مع البنك الدولي حول الهجرة الداخلية في تونس، أنّ البحث عن لقمة العيش هو الدافع الرئيسيّ وراء نزوح سكّان الأرياف إلى المدن الكبرى. ويشرح أنّ تغيّر المناخ أدّى إلى تغيّر في الزراعة التقليدية التي يمارسها سكان الأرياف منذ مئات السنين، إذ لم تعد الأرض التي كانت قادرة على إعالة عائلة كاملة بسبب الجفاف والنقص الكبير في المياه منتجة، "لذلك تُجبر العائلات بأكملها أو جزء منها على الرحيل في اتجاه المناطق التي يمكن أن تعثر فيها على مورد رزق." ويؤكد قصار أنّ الهجرة من الأرياف للمدن لم تعد تقتصر على الذكور، فالعائلات الريفية التي لم تكن تقبل بهجرة بناتها، صارت اليوم تتسامح مع ذلك من أجل العثور على لقمة العيش، موضحًا أنّ هذه الظاهرة وفق دراسة حديثة انتشرت في مناطق الوسط الغربيّ والجنوب، حيث باتت هجرة الفتيات من الأرياف نحو الساحل مهمّة، أين توجد المصانع والمطاعم والفنادق. شحّ المياه يفرغ الأريافوتعاني تونس تراجعًا كبيرًا في مخزونها المائيّ الذي لم يتجاوز بحسب أحدث الأرقام 30 بالمئة، ما يهددها ببلوغ مرحلة الشحّ المائيّ وفق الخبير في المياه علاء مرزوق، الذي أكد في تصريح لمنصّة "المشهد"، أنّ هناك اليوم حاجة لإعلان حالة الطوارئ المناخية. ووضع صندوق النقد الدولي تونس من ضمن مجموعة الدول المهدّدة بتنامي الهجرة الداخلية لأسباب مناخية، وأوضح في تقرير له، أنّ التغيّر المناخيّ الذي يشهده العالم، قد يُجبر 216 مليون شخص على النزوح داخل حدود بلدانهم مع حلول عام 2050. ويشدّد الخبير البيئيّ حمدي حشاد، على أنّ التغيّرات المناخية فرضت واقعًا جديدًا يهدد بتفريغ الأرياف من سكانها، بعد أن "جعلت الحياة فيها تكاد تكون شبه مستحيلة بسبب ندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة، وهو ما يجبر كثيرين على الهجرة أو النزوح بحثًا عن واقع أقل قساوة"، ويتحدث عن بروز نزاعات وصراعات عنيفة على الأراضي الخصبة والمياه في المناطق الريفية سببها شحّ الماء ما يهدّد في تقديره أمن السكان. ويضيف في تصريح لمنصّة "المشهد"، أنّ هناك الكثير من الظواهر التي بدأت تبرز في السنوات الأخيرة ممهّدة للنزوح المناخي، "وقد تصل إلى الهجرة المناخية"، ووفق تقديره" إذا لم يتغير الواقع وتوجد الحلول، فإنّ الهجرة الداخلية بسبب التغيّر المناخيّ ستتواصل وقد تصبح الأرياف خالية من سكّانها". وتشير الإحصاءات إلى أنّ مليون نازح أغلبهم من الشباب، هجروا مناطقهم إلى العاصمة ومدن الساحل التونسي بعد عام 2011، وتأتي العاصمة كأكبر حاضرة مستقبلة للشباب الباحث عن موارد الرزق. زيادة نسب الفقر ورغم أهمية الظاهرة لا توجد دراسات علمية تتناول تأثير المناخ على الهجرة الداخلية في تونس. ويقول الخبير الدولي في البيئة عادل الهنتاتي، إنّ البحث في الظاهرة مهمّ ويحب على السلطات أن تلتفت لذلك، "حتّى لا نُصدم بعد أعوام بأرياف خالية من أصحابها"، ويؤكد أنّ نمط الحياة في الأرياف صار مرتبكًا بسبب التغيّرات المناخية، موضحًا أنّ "نسب الفقر ارتفعت في الأرياف التي هي بطبعها من المناطق الفقيرة". ويشير إلى أنّ سكان الأرياف فقدوا موارد رزقهم بسبب نقص المياه وانحباس الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، ونشوب الكثير من الحرائق. ويشرح أنّ الغابات والغطاء النباتي يوفر مورد رزق للآلاف من سكان تلك الربوع، "فمربّو الماشية يستغلونها كمرعى، بينما يصنع آخرون الحطب من أشجارها، فيما يحوّل آخرون نباتها إلى زيوت وأعشاب طبية". وفي سنة 2021 أتت النيران على نحو 27 ألف هكتار ويتطلب عودة الغطاء النباتيّ أكثر من عشر سنوات وفق الهنتاتي، ما يحوّلها إلى أماكن غير صالحة للعيش. ولا تستثني التغيّرات المناخية المناطق الساحلية، وتؤكد الكثير من التقارير أنّ درجات حرارة مياه البحر عرفت ارتفاعًا في تونس خلال السنوات الأخيرة. ويعلق الهنتاتي على ذلك، مؤكدًا أنّ أنواعًا من السمك غادرت سواحل تونس، ما يضع صغار البحارة في المناطق الريفية الساحلية في حالة بطالة، لافتًا أيضًا إلى أنّ درجة الملوحة بالأراضي الفلاحية على السواحل، سترتفع على حساب الماء العذب ما يجعلها غير صالحة للزراعة. التأقلم والصمود وتتعالى الأصوات في تونس المنبّهة لخطورة الوضع في تونس، ويقول حشاد إنّ أبرز تحدي مطروح اليوم هو التحدي المناخي. ويعتبر أنّ السلطات التونسية مطالبة اليوم بالاهتمام أكثر بهذا الملف، بعيدًا عن الحلول الترقيعية التي يقع اتخاذها حاليًا. كما يشير إلى ضرورة تغيير المنوال الزراعيّ التونسيّ من خلال إيقاف الزراعات المستهلك للمياه، كالزيتون المستورد والاعتماد أكثر على البحث العلميّ والتكنولوجيا في المجال الزراعي، وتكثيف الدراسات وأخذ نتائجها بعين الاعتبار. فيما يعتبر الهنتاتي أنّ هناك حاجة كبيرة للتأقلم والصمود مستقبلًا مع الواقع الجديد، من خلال العودة لتطويع التقنيات القديمة التي كان الأجداد يعتمدونها مثل تجميع مياه الأمطار ب"المواجل". كوب 28 "فرصة هامّة" يعتبر الهنتاتي أنّ قمة المناخ كوب 28 التي ستحتضنها الإمارات، هي قمّة مهمّة لأنها ستركز على تدعيم استعمال الطاقة البديلة غير المتجدّدة، إضافة إلى أنها ستركز على دعم صندوق الأضرار والتعويض الذي أُعلن عن إنشائه في قمّة شرم الشيخ وستحدّد طريقة عمله ومن سيستفيد منه، وتنمّي مناخ الثقة بين المانحين والمستفيدين ومن بينها تونس، التي هي في حاجة ماسّة للدعم. وفي السياق، يقول حشاد إنّ هذه القمّة ستكون فرصة للبحث عن حلول توافقية ومساعدة الدول الهشّة، والدفاع عن حق الأجيال القادمة في الحياة في بيئة سليمة. (تونس - المشهد)