دولار.. دولار.. دولار.. يردّد عصام ع.، أحد تجار الأواني المنزلية في اللاذقية، كنوع من التعبير عن فرحته بسقوط نظام بشار الأسد و"تحرره من الرعب السائد لأكثر من عقد من الزمن".يروي التاجر الذي وصل إلى المدينة الساحلية قبل أكثر من 10 سنوات قادماً من حلب مأساته لمنصّة "المشهد" قائلاً "ذلونا (النظام السابق) بمالنا، الأفرع الأمنية والمؤسسات الحكومية كانت شريكة في أعمالنا وبدون ضوابط، فقط من خلال الأتاوات، والأكثر رعباً كانت تهمة التعامل بالدولار كجريمة يمكن أن تسلبك حياتك وثروتك". منذ بداية الحرب السورية، اعتمد نظام الأسد الحلول الأمنية والاستخباراتية في إدارة الاقتصاد المتآكل، بدءاً من تقييد حركة نقل الأموال والأصول الثابتة وصولاً إلى تجريم كل من ينطق بلفظ الدولار، والذي تحوّل إلى سيف مسلّط من قبل الأجهزة الأمنية "كالخطيب والداخلي" لابتزاز التجار وأصحاب رؤوس الأموال وصولاً إلى المواطنين العاديين. يقول عصام الخمسيني، رب عائلة مكوّنة من زوجة و5 أبناء "كل التعاملات التجارية كانت تتم بالدولار، البضائع تسعّر بالدولار، وحتى عمليات البيع والشراء، لكن في السر. كنّا نتفادى الحديث عبر الهاتف ونستعين بتطبيقات المراسلة عوضاً عن ذلك، ونستخدم تسميات من قبيل الأول أو النعناع أو الخس كناية عن الدولار".بيع وشراء بعملات مختلفة في جملة المتغيّرات الثورية التي طرأت على الواقع المعيشي السوري، انتشار محال الصرافة في كل أرجاء البلاد، بالإضافة إلى تداول الليرة التركية والدولار الأميركي إلى جانب العملة المحلية: الليرة السورية، وباتت إشارة "$" الملصقة على واجهة المحال تشير إلى استعدادها لتصريف الأموال، بعد سنوات من الهمس باسم أي عملة أجنبية.منذ يونيو 2020، أعلنت "حكومة الإنقاذ" التابعة للجولاني في إدلب اعتماد الليرة التركية كعملة رئيسية في المنطقة لتحل محل الليرة السورية بسبب الانخفاض الكبير في قيمتها. لكن فقدان الليرة التركية لقيمتها بشكل كبير أمام الدولار، زاد من التحديات الاقتصادية للسكان المحليين، ما دفع "بحكومة الإنقاذ" إلى تبني الدولار الأميركي في أوائل أغسطس 2023، مستندة إلى شكاوى متعددة من المزارعين والتجار بشأن التقلبات الكبيرة في قيمة الليرة التركية. ومع سقوط نظام الأسد توسّعت تجربة إدلب لتشمل كافة المدن السورية الكبرى التي سيطرت عليها "هيئة تحرير الشام" في غرب الفرات. يقول منصور ع، صاحب مكتب عقاري في العاصمة السورية "محطات الوقود تسعّر بالدولار الأميركي والليرتين التركية والسورية، لكن معظم المحال في دمشق لا تزال تتعامل بالليرة السورية والدولار فقط، فالتعامل بالليرة التركية لا يزال محدوداً جداً". بالمقابل، تؤكّد ربى القرقناوي، وهي ربّة منزل في مدينة حلب على "إمكانية الدفع بأي من العملات الثلاث في معظم المحال الكبرى في حلب، مع بقاء الدولار العملة المفضّلة من قبل الجميع". بعد سقوط نظام الأسد شهدت الليرة السورية ارتفاعاً في قيمتها بنسبة تجاوزت 20% مقابل الدولار الأميركي، لتتراوح أسعار الصرف بين 10,000 و12,000 ليرة سورية للدولار، مقارنة بالسعر السابق البالغ 15,000.يقول الخبير الاقتصادي السوري، حازم عوض، في حديثه إلى منصّة "المشهد" إن "قيمة العملة ترتبط بالعرض والطلب، وما شهدناه في الأيام الماضية من ارتفاع في قيمة الليرة السورية يخضع لهذه النظرية، حيث إن توقّف الاقتصاد وتوجّه السوريين نحو الصرف الاستهلاكي المعيشي أدّى إلى ارتفاع الطلب على الليرة إلى حد كبير وبالتالي ارتفاع قيمتها". وأضاف عوض "اعتماد الليرة التركية والدولار خلال الأيام الماضية طبيعي في ظل توقّف المصارف وشركات الصرافة وتحويل الأموال، لكن باعتقادي بأن الوضع سيتغير تباعاً، لأن اعتماد العملات الأجنبية سيخفض من الطلب على الليرة السورية وهذا سيؤثر على قيمتها وعجلة الاقتصاد عموماً".سياسات نقديةعلى الرغم من التحسن الأخير في قيمة العملة، لا يزال مستقبل الاقتصاد السوري قاتماً. تقدّر الأمم المتحدة أن 16.7 مليون من أصل 23.5 مليون سوري، أي أكثر من 71% من السكان، بحاجة إلى نوع من المساعدة، وتفاقمت الأزمة بفعل آثار الحرب الطويلة، والانهيار الاقتصادي، والكوارث الطبيعية مثل الزلازل المدمرة التي وقعت أوائل عام 2024 وأسفرت عن مقتل الآلاف. كما أدّت الحرب إلى نزوح حوالي 7.2 ملايين نازح داخلي داخل سوريا، بالإضافة إلى 4.9 ملايين لاجئ سوري يعيشون خارج البلاد، خصوصا في دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن، حيث يواجه العديد منهم عداءً متزايداً وضغوطاً للعودة إلى سوريا، رغم الدمار وعدم الاستقرار الذي ينتظرهم. في الوقت ذاته، يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر. وقد أدّى تدهور قيمة الليرة السورية، إلى جانب عوامل خارجية مثل جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، إلى تفاقم التضخم وتدهور ظروف المعيشة، ما دفع بالأمم المتحدة إلى طلب تمويل بقيمة 4.07 مليارات دولار لاستجابتها الإنسانية في سوريا، حيث تم تأمين 31.6% فقط من هذا المبلغ. وشهدت البلاد العام الماضي تضخماً مفرطًا أدى إلى تآكل كبير في القوة الشرائية، وصعوبة في تأمين المواطنين لاحتياجاتهم الغذائية الأساسية، وقد تدهورت قيمة الليرة السورية من حوالي 50 مقابل الدولار قبل عام 2011 إلى نحو 15000 اليوم. كما تقلّص الاقتصاد السوري بنسبة 85%، حيث انخفضت قيمته من 67.5 مليار دولار في عام 2011 إلى 9 مليارات دولار فقط العام الماضي. وأدّى هذا الانهيار إلى تراجع ترتيب سوريا من المرتبة 68 إلى المرتبة 129 في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لتصبح بمستوى بعض أفقر الدول مثل تشاد والأراضي الفلسطينية.ليرة جديدةوتسبب الصراع الطويل والعقوبات الدولية والنزوح بأضرار جسيمة للبنية التحتية للبلاد، حيث تأثرت قطاعات حيوية مثل الكهرباء والنقل والرعاية الصحية. وتشير التقديرات إلى أن سوريا قد تستغرق حوالي 10 سنوات للعودة إلى مستوى الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب، وما يصل إلى 20 عامًا لإعادة الإعمار الكامل، وذلك بشرط توفر الاستقرار السياسي والوضوح بشأن الإدارة الجديدة. مع وصولها إلى الحكم، أعربت السلطة الجديدة عن التزامها بإنشاء نظام اقتصادي قائم على المنافسة، نقيض النظام السابق الذي سيطر بشكل صارم على الأنشطة الاقتصادية وقيّد المشاريع الخاصة، وسط توقّعات بإلغاء النظام الجمركي التقييدي والعراقيل التي كانت تواجه التجار سابقاً أمام تصاريح الاستيراد وإجراءات صرف العملات، حيث يُنظر إلى الوعد بتبسيط عملية استيراد البضائع كخطوة مهمة لإنعاش السوق وتحفيز النشاط الاقتصادي. وحسب عوض فإن "التركيز سيكون في الفترة القادمة على السياسات النقدية والإنتاجية بشكل مواز، ففي حين يمكن أن تلعب الودائع والقروض الأجنبية دوراً مهماً في دعم المصرف المركزي السوري الفارغ من أي عملات أجنبية أو ذهب، فإن الدفع بعجلة الاقتصاد سيكون التحد الأكبر، لأن الأموال الساخنة لا تقوّم الاقتصاد". يعوّل الكثير من السوريين على قدرة اللاجئين في لعب دور محوري في التعافي الاقتصادي من خلال مساهماتهم المحتملة في جهود إعادة الإعمار، من خلال العودة إلى الاستثمار في البلاد. وفي الوقت ذاته، يتوقّع عوض أن تقوم السلطات الحالية ببعض الإجراءات السريعة "كإزالة صفر أو أكثر من العملة الورقية المنتظر طباعتها حديثاً، تيمّناً بالتجربة التركية"، وذلك عوضاً عن الحالية التي تحمل صورة الرئيس الفار. رغم إيجابيّاته فإن التحول السريع وغير المدروس نحو اقتصاد السوق الحر يحمل تحدّيات كبيرة للبلاد، فيما يبقى التنفيذ الفعلي للإصلاحات وتوفير بيئة ملائمة للاستثمار والنمو من أولى أولويات المرحلة القادمة اقتصادياً.(المشهد )