يقول الرئيس السابق دونالد ترامب، المرشح الأوفر حظًا في الولايات المتحدة لتمثيل الحزب الجمهوريّ في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرر اجراؤها نهاية نوفمبر المقبل، إنه حذّر ذات مرة من أنه سيسمح لروسيا "أن تفعل ما تريد للدول الأعضاء في الناتو" التي "تأخرت" عن تخصيص 2% من ناتجها المحلّي الإجماليّ للدفاع. وفي حديثه في تجمّع حاشد بولاية جنوب كارولينا، استذكر ترامب كيف أنه أخبر رئيس دولة عضو في حلف شمال الأطلس "الناتو" من دون ذكر اسمه، أنه لن يدعم أيّ دولة أمام الهجوم الروسيّ ما لم تفِ بالتزاماتها المالية، بل سيشجّع موسكو على ذلك، بحسب قوله. واعتبر بعض المعلقين أنّ توقيت تصريحات ترامب، بعد وقت قصير من مقابلة مضيف قناة فوكس نيوز السابق تاكر كارلسون مع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، مثير للشكوك وسبب آخر للمزيد من القلق.الأوروبيون زادوا من إنفاقهم العسكري تصريحات ترامب دفعت بالأوروبيّين إلى دقّ ناقوس الخطر بشأن أمنهم الذي بات محاصرًا بين تهديدات الرئيس الأميركيّ السابق ووافر الحظوظ لخلافة بايدن مع بداية العام المقبل، وبين الخوف من قرار مفاجئ من قبل بوتين بتوسيع "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، لتشمل دولًا أخرى في شرق القارة خصوصًا. مخاوف عبّر عنها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ بوضوح، معتبرًا أنّ ترامب يهدد أمن التحالف عبر الأطلسي بأكمله. لعقود من الزمن، كان المسؤولون الأميركيون يسافرون إلى أوروبا لإقناع حلفائهم الأوروبيّين لإنفاق المزيد على الدفاع، بحسب ما كشفه سفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي، إيفو دالدر، في مقال كتبه قبل أيام لصحيفة "بوليتيكو" الأميركية. لكنّ المشهد انقلب اليوم، حيث بات الزعماء الأوروبيون هم من يأتون إلى واشنطن لحثّ المسؤولين الأميركيّين على عدم التردّد في دعم أمن أوروبا. ضغوط ترامب في السابق حقق النتائج المرجوّة، إذ ارتفع الإنفاق على الدفاع بشكل مطّرد أثناء وجوده في السلطة، ليعود إلى الانخفاض مجددًِا بعد مغادرته، قبل أن يبدأ بالارتفاع مرة أخرى بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وفقًا لأرقام الناتو التي تمت مشاركتها هنا. في عام 2014، نتيجة ضغوط من الرئيس الأميركيّ الأسبق باراك أوباما، والأمين العام لحلف الشمال الأطلسي، وافق أعضاء الناتو على "التحرك نحو إنفاق 2% من الناتج المحلّي الإجماليّ على الدفاع الوطنيّ بحلول عام 2024".لكن، وفقًا لوكالة الدفاع الأوروبية، بلغ إجماليّ الإنفاق الدفاعيّ 1.5% فقط من الناتج المحلّي الإجماليّ في المتوسط، في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبيّ في عام 2023، على الرغم من إنفاق بعض الدول أكثر من ذلك بكثير.وفي قمتهم الأخيرة التي استضافتها ليتوانيا في شهر يوليو، عدّل زعماء الأطلسيّ هذا التعهد بالموافقة على إنفاق "ما لا يقل" عن 2% من الناتج المحلّي الإجماليّ على ميزانياتهم العسكرية. تُظهر خريطة الانفاق العسكريّ للدول الأوربية، أنّ ميزانيات الدفاع ترتفع كلّما كانت الدولة الأوروبية أقرب إلى روسيا، حيث غدت بولندا الأعلى إنفاقًا عسكريًا بين الدول الأوربية، بمعدل نحو 3.9% من ناتجها المحلي مقارنة بـ 1.9% عام 2014، متجاوزة الولايات المتّحدة أيضًا. المخاوف المذكورة أعادت إلى الحياة أيضًا أجندة "الحكم الذاتيّ الاستراتيجي" لإيمانويل ماكرون المبنيّة على الحاجة إلى اتحاد أوروبيّ أكثر صرامة وسيادة، وأدّت إلى احياء "مثلث فايمار"، وهو التنسيق الفرنسيّ- الألمانيّ- البولندي، الذي تم تجميده في عهد رئيس الوزراء البولنديّ السابق ماتيوس مورافيتسكي، قبل أن يعود إلى الحياة تحت قيادة الزعيم الحاليّ دونالد تاسك.ترامب يتصرف كرجل أعمال ناجحاعتمد الحلف تاريخيًا على قيادة الولايات المتحدة ودعمها، ويتوقّع المحللون أن يؤدي الوصول المحتمل لترامب إلى البيض الأبيض، إلى تغييرات في هيكله والتزاماته وقدراته الدفاعية الجماعية، ما يحفّز المسؤولين الأوروبيّين على بذل المزيد من الجهود للدعم الأوروبيّ الذاتي. وبدأ المسؤولون الألمان والحلف شمال الأطلسي مناقشات مكثّفة حول مستقبل الناتو، في ضوء التحولات المحتملة في السياسة الخارجية الأميركية، والعواقب المترتبة على استراتيجياتها الدفاعية، ما دفع بوزير الدفاع الألمانيّ بوريس بيستوريوس إلى مطالبة مواطنيه الألمان الاستعداد لمواجهة موسعة مع روسيا، وحثّهم على إعادة بناء جيش البلاد بسرعة في حالة عدم توقف بوتين عند الحدود مع أوكرانيا. وتتوقّع فئة كبيرة من المحلّلين الأوروبيّين بأنّ فوز ترامب في الانتخابات سيأتي بمسؤولين أميركيّين أكثر ميلًا إلى رفض الترتيبات متعددة الأطراف مع الشركاء الخارجيّين، استنادًا إلى الشعار الذي لطالما شكّل عنوان حملته الانتخابية "أميركا أولًا". تبدو واشنطن هي الأخرى تتجهز للعواقب المحتملة لفوز ترامب، إذ أقر الكونغرس الأميركيّ تشريعًا يصعّب على الرؤساء المستقبليّين الانسحاب من الناتو. ويتضمن مشروع قانون السياسة الدفاعية، الذي وافق عليه الكونغرس الأميركيّ في ديسمبر الماضي، أحكامًا تنصّ على أنه يجب على الرئيس الحصول على مشورة وموافقة مجلس الشيوخ أو قانون من الكونغرس، قبل انسحاب الولايات المتحدة من عضوية الناتو. وإن كان التشريع المذكور يعيق ترامب إلى حدّ كبير عن الانسحاب من الحلف، إلا أنّ المخاوف من عدم التحرّك الأميركيّ عسكريًا حيال أيّ تهديد يواجهه أحد أو بعض أعضاء الحلف، لا يمكن حصرها بالتشريعات والقوانين، خصوصًا وأنّه خيار مفتوح لجميع أعضاء الحلف، الذين يُمنحون خيار كيفية الردّ على استدعاء القوة في المادة 5، من بند الدفاع عن النفس في شمال الأطلسي. وبينما اعتبر البعض تهديدات ترامب بالانسحاب من الحلف تكتيكًا انتخابيًا، رأى مستشاره السابق للأمن القومي، جون بولتون، خلال مقابلة مع قناة "ام اس ان بي سي" الأميركية، أنّ ترامب "عندما يقول إنه يريد الخروج من الناتو، أعتقد أنه تهديد حقيقيّ للغاية، وسيكون له آثار سلبية كبيرة ليس على الولايات المتحدة وشمال المحيط الأطلسي فقط، بل في جميع أنحاء العالم". وأشار بولتون في مذكراته إلى أنّ ترامب كان على وشك سحب الولايات المتحدة من الناتو في عام 2018. يستبعد الضابط التركيّ السابق في القوى البحرية سعاد ديلغين في حديثه مع منصّة "المشهد"، إمكانية انسحاب الولايات المتّحدة من شمال الأطلسي "سواء كان رئيسها ترامب أو غيره، إلّا أنّ النظام المؤسس في أميركا لن يقبل بمثل هذه الخطوة". ويشرح ديلغين، مسؤول تنسيق بلاده مع الأطلسي في السابق، أنّ "واشنطن في رؤيتها الاستراتيجية تعتمد بشكل كبير على الحلف في مواجهة الصين في المحيط الأطلسي، وهذا سبب ضمّ دول مثل استراليا واليابان إلى تحالفات أطلسية خلال العامين الماضيَين". ويضيف، "لذلك لا يمكن لأميركا التنازل عن هذا السلاح بالانسحاب من الحلف، لا اليوم ولا في الأعوام المقبلة". ويقول الخبير التركيّ في الصناعات الدفاعية والعسكرية والحرب السيبرانية، إنّ "ترامب كرجل أعمال ناجح يحاول الاستثمار، وهذا ليس غريبًا على شخصيّته، مع رفع دول الأطلسي لميزانيّاتها الدفاعية ستصبّ هذه الأموال في جيوب الشركات الأميركية، بالنظر إلى أنّ الولايات المتّحدة هي المصدر الأول للسلاح عالميًا بفارق كبير عن باقي الدول". ويستشهد ديلغين بالقرار الألمانيّ بإنفاق 100 مليار يورو على الدفاع، قائلًا: "هذه الأموال ستذهب إلى شراء مقاتلات اف-35، أي ستدخل في الناتج المحلّي الأميركي، وتهديدات ترامب ستُجبر دولًا مثل تركيا التي تخصص اليوم 1.5% فقط من ناتجها الإجماليّ المحلّي على الدفاع على شراء المزيد من الأسلحة، ما يعني تنشيط سوق الصناعات العسكرية الأميركية". (المشهد)