حرارة الشمس وساعة ونصف الساعة من الانتظار، لم تمنعا السيد منجي، وهو عامل يومي وأب لأربع أبناء، من الالتزام بطابور الخبز الطويل أمام أحد المخابز الشعبية، بمنطقة البحر الأزرق بضاحية المرسى، من دون كلل.يتأبط العم منجي كيسا بلاستيكيا ملونا، وفوق رأسه مظلّة تقيه أشعة الشمس الحارقة التي أنهكته. وضاعف من استيائه مدة الانتظار الطويلة، مع وعود الخباز الواهنة بقرب وصول الخبز. بات رغيف الخبز يكلّف المنجي وعددا لا يقل عن 40 شخصا، في وضعيته نفسها، أمام المحل، من نساء وأطفال وشيوخ، الكثير من الصبر والتحمّل، وقليلا من الخبز الذي أصبح يباع بكميات محدودة لتغطية حاجة الجميع. يقول العم منجي في تصريح خاص لـ"المشهد": "لقد بات الحصول على الخبر وهو أبسط أولويات الغداء، أمرا شاقًّا بالفعل، ولكنني أنا ربُّ الأسرة ومن واجبي تحمّل هذه المسؤولية". مشيرا إلى أنّ تحضير الخبز في المنزل، هو أيضا بات أمرا مستحيلا بسبب غياب مادة السميد، مضيفا، "صنع الخبز في البيت في مثل هذا الطقس الحار، هو أمر متعب لزوجتي خصوصا أنها عاملة وتعود للمنزل بعد يوم طويل، فليس لديّ من الحلول سوى الانتظار مع البقية". وتعاني المخابز التونسية في الفترة الأخيرة نقصا في توفير الخبز المدعّم، وانتشرت ظاهرة الانتظار ضمن طوابير طويلة، تبدأ حتى قبل فتح أبواب المخابز في الصباح. وتنقسم محالّ المخابز إلى ثلاثة أصناف في تونس، ويوجد 1300 مخبز من صنف "أ"، التي تصنع الخبز من الحجم الكبير، و2000 مخبز صنف "ج"، والتي تصنع "الباقات" ذات الحجم الصغير، وهما صنفان مدعومان من الدولة، وهناك 900 مخبز غير مصنّف، وتدعى المخابز العصرية التي تُنتج أصنافا متنوعة، من المخبوزات الرفيعة. نقص في الموادّ الأولية أم تقصير؟ نقلت تقارير صحفية محلية، وجود معاناة كبيرة في تحصيل الخبز في عدد من الولايات. وكانت قد انطلقت مظاهر الأزمة منذ ثاني أيام عيد الأضحى. وكان رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز محمد بوعنان، قد علّق على النقص الحاصل في مادة الخبز خلال الفترة الماضية، مرجعا ذلك إلى خروج أغلبية عمال المخابز في عطلة لمناسبة عيد الأضحى، وإلى لهفة المواطنين بدايةً من ثالث أيام العيد، على اقتناء الخبز بكميات أكبر من المعتاد. وتتواصل الأزمة إلى هذه الساعة بنسق تصاعدي، وقد بادرت وزارة التجارة بحلها، من خلال العمل بحصص إضافية في المخابز خلال عطلة نهاية الأسبوع، من أجل توفير الخبز وتزويد السوق، وفق ما صرّح به نائب عن الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز المصنّفة بتونس، السيد حمودة طرهوني، للمشهد. ونفى الطرهوني في تصريح خاص لمنصة "المشهد"، وجود إشكال في إنتاج الخبز، مشيرا "إلى أنّ هناك نقصا في التزود بالكمية الكافية من المطاحن، لدى المخابز المصنّفة، والتي تحصل على الدعم من الدولة، فيما الوضعية نحو التحسن بصفة تدريجية". ويؤكد المتحدث على أنّ مستويات الإنتاج قادرة على تغطية احتياجات كامل البلاد، "إلّا أنّ التقصير يكمن في عمليات توزيع المواد الأولية، التي تتقاسمها المخابز المدعّمة مع غيرها من المخابز غير المصنّفة" وفق تصريحه. وكان رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز قد عزا أزمة نقص الخبز أيضا إلى انقطاع الكهرباء بكامل الجمهورية، الذي يتسبب في إتلاف الخبز ومنها نقص في المنتج.لُبس في التصنيف من جهة أخرى، يقول رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي، إنّ المخابز غير المصنّفة تستغل ربع كمّيتها فقط من المواد الأولية التي تحصل عليها لإنتاج الخبز، وتعتمد على الثلاثة أرباع المتبقية في تجهيز الأصناف الأخرى من المخبوزات غير المدعّمة، ومع تسجيل نقص في الحصول على الدقيق، فإنّ "كميات الخبز التي كانت توفرها، تتضاءل، وهو ما يتسبب في فقدانه وتوافره على فترات قصيرة في اليوم، مقابل توافر الأصناف الرفيعة". ويؤكد الرياحي في تصريح خاص لمنصة المشهد، أنّ الإشكال يكمن في ارتباك المواطن وعدم قدرته على التمييز بين المخابز المدعّمة وغيرها، وبالتالي "فإنّ المواطن يتجه إلى أقرب مخبز، ويدخل لأيّ محل يبيع الخبز والمخبوزات، ويطالب بشراء الخبز المدعّم من دون علم بأنه ينتظر في طابور لا يوفر إلا الأصناف غير المدعّمة، الأمر الذي يجعله يستنكر الاختلاف في أسعار بيع "الباقات". ويشير المتحدث إلى أنّ أصحاب المخابز غير المصنّفة، يغلّبون مصلحتهم الشخصية، عبر تقديم وعود للعميل بالحصول على الخبز، من دون الاعتذار عن حقيقة عدم توافره"، فيجد المواطن نفسه في النهاية في موقف يجبره على شراء الأصناف غير المدعّمة بأسعار مرتفعة، بعد طول الانتظار الذي قضاه، وحتى لا يعود بدون خبز بعد مشقّة محاولة الحصول عليه". مذكّرا أنّ من أهم المشاكل الأخرى التي تتسبب في نقص توفير الخبز، هو اعتماد المخابز غير المصنّفة في منتجاتها، على الدقيق المدعّم، فيما تقوم ببيع منتجاتها بالأضعاف، وهو ما يخلق ضغطا على توافر المواد الأولية لدى المخابز المصنّفة. "خبز واحد للتونسيين" وكان الرئيس قيس سعيّد قد تفاعل مع الأزمة في جلسة عمل البارحة، أشار من خلالها إلى أنّ "الخبز خطّ أحمر بالنسبة للتونسيين". ودعا رئيس الجمهورية، في فيديو نشرته رئاسة الجمهورية، إلى ضرورة اتّخاذ إجراءات عاجلة لتجاوز أزمة الخبز الحاصلة. وتابع: "اليوم أصبح هناك خبز للفقراء وخبز للأثرياء! وكأنّها طريقة ملتوية لرفع الدعم عن الحبوب.. هناك خبز واحد للتونسيين، وينتهي الأمر". وأشار سعيّد إلى مراجعة النظام القانوني المتعلّق بتصنيف المخابز، داعيا الى العمل بنوع واحد من الخبز، الأمر الذي لاقى تفاعلا إيجابيا من قبل المهنيين. وبالخصوص اعتبر النائب عن الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز المصنّفة، حمودة الطرهوني في تصريح خاص، "أنّهم ملتزمون كمخابز مصنّفة بهذا القرار"، متابعا، "المواطن بدوره أصبح لا يعلم المخابز المصنّفة من غيرها، وقرار رئيس الجمهورية من شأنه أن يوثّر ايجابًا على توافر الخبز وتحديد سعره بـ 190 ملّيما". (المشهد)