يستمر انقطاع خدمات الاتصال بالإنترنت في السودان لليوم الثامن على التوالي مخلّفاً أضراراً كبيرة للاقتصاد الوطني الهش في البلاد، إضافة إلى التأثير السلبي للواقع المعيشي الكارثي للسكّان وسط تواصل الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي خلّفت آلاف القتلى وتسببت في تشريد الملايين خلال ما يقرب 10 أشهر من الاقتتال. وتزيد الانقطاعات المتواصلة والطويلة للتيار الكهربائي من المعضلة المعيشية لملايين السكان، الذين بات 25 مليونا منهم بحاجة إلى الدعم لإنقاذهم من الجوع والحماية من التشرّد حسب أرقام الأمم المتّحدة.قطع الإنترنت تحوّل إلى سياسة رائجة تتكرر معاناة السودان من انقطاع الاتصالات منذ سنوات طويلة، كإحدى وسائل الضغط على الرأي العام أحياناً، وأحياناً أخرى كأداة بيد أحد أطراف النزاع لتحقيق مكاسب ومؤخراً لتمويل الحرب. ويؤكّد الناطق الرسميّ لـ"قوى الحرية والتغيير" السودانية شهاب إبراهيم في حديثه مع منصّة "المشهد"، أن "قطع الإنترنت سلوك النظام البائد كان يلجأ إليه دائما كلما تكون هناك مقاومة شعبية لإسقاطه وقد استخدمه قبل سقوطه في 2018 و2019 وعاد إلى استخدام هذا السلوك بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021". يتّفق في الرأي معه عضو المكتب التنفيذي ولجنة الإعلام في تيار "تقدم"، الدكتور علاء الدين عوض نقد قائلاً في حديثه مع منصّة "المشهد" أن "انقطاع الإنترنت بدأ منذ أيام تظاهرات الثورة في 2018 ثم عند فض اعتصام القيادة العامة وارتكاب تلك المجزرة، ومن ثم عند انقلاب 25 أكتوبر 2021 وأيام التظاهرات المناهضة للانقلاب". ووصف نقد الخطوة بأنها "سنّة سيئة بدأها النظام البائد وحكومة الإخوان المسلمين ونظام عمر البشير واستمر العسكر بعد ذلك في اتبّاعها، لتصبح سياسية وإحدى علامات الديكتاتورية".قطع الإنترنت يؤثّر على حياة السودانيين اليومية اهتزت الحالة الأمنية الهشة في البلاد منذ 15 أبريل الماضي، ولا سيما في دارفور والعاصمة الخرطوم، بعد اندلاع القتال العنيف بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني ما بات يؤثر على حياة معظم السودانيين بشكل مباشر. وأدّى القتال إلى ازدياد حاجة السودانيين للمساعدات الإنسانية، وتسبب في نزوح الملايين إلى دول تشاد وإثيوبيا ومصر وجنوب السودان المجاورة، بالإضافة إلى النزوح الداخلي. وفي أواخر أبريل، انتشرت صور لفرع بنك السودان المركزي في الخرطوم وهو يشتعل في إشارة واضحة إلى انهيار النظام المالي في البلد، الذي أغلقت العديد من مصارفه أبوابها، ما حال دون إمكانية فئة كبيرة من المواطنين الحصول على الدخل والمدّخرات والتحويلات المالية والمساعدات الإنسانية. هذه التطوّرات أدت إلى تحوّل السودان إلى مجتمع غير نقدي تقريباً، حيث يتم دفع الرواتب الحكومية باستخدام تطبيق فوري للخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، ودفع فواتير الخدمات والرسوم (المياه والكهرباء والرسوم المدرسية والوقود والاتصالات والإنترنت) رقمياً، واستبدلت الكثير من المتاجر الدفع النقدي بالدفع عبر الهاتف المحمول. كما قام برنامج دعم الأسرة الجديد الذي تقوده الحكومة بتقديم الأموال النقدية في شكل قسائم ائتمانية عبر الهاتف المحمول، وكذلك أصبحت المساعدات الغذائية الإنسانية رقمية، مع استخدام القسائم الإلكترونية وبطاقات الخصم المباشر، وزيارة الوكلاء المصرفيين لمخيمات النازحين. كل ما سبق يشير إلى حجم الكارثة التي يعاني منها السودانيون مع كل انقطاع الاتّصالات. ويشرح الاستشاري في جراحة الكبد وزراعة الأعضاء، علاء الدين عوض نقد "للمشهد" عن تأثير انقطاع خدمات الإنترنت على جميع خدمات العون الإنساني والخدمات الطبية والإغاثية، قائلاً "نظراً لصعوبة الحركة فان التواصل دائماً يتم من خلال الاتصالات من خلال شبكة الإنترنت وأيضاً عمل غرف الطوارئ والاستجابة يتم من خلال مجموعات الوسائط في شبكات التواصل الاجتماعي، وجميع أو معظم عمليات الشراء للسلع الضرورية تتم من خلال التحويلات البنكية لذلك فإن انقطاع الإنترنت له تأثير سلبي ومباشر على حياة المواطنين". كما يشير شهاب إبراهيم إلى أن "عمليات الشراء للمواد الغذائية والأدوية تتم من خلال تطبيقات البنوك، ما يعني أن انقطاع الإنترنت سينعكس على حياة الكثيرين في ظروف هذه الحرب".التحويلات الخارجية ركيزة أساسية للعائلات السودانية تعتمد نسبة كبيرة من العائلات السودانية على التحويلات المالية التي يقوم بها أبناؤها المغتربون لإعالة أصولهم أو أقاربهم في عوامل الحرب القاسية والظروف المعيشية شبه المعدومة. لكن السودان يعاني توقّف الخدمات المصرفية الإلكترونية المركزية ومفتاحها الوطني الخاص بالبنك المركزي، ما يعني عدم وجود إمكانية إجراء تحويلات بين البنوك. لذا فإن إرسال الأموال من خارج السودان يتطلب العثور على أشخاص لديهم حسابات بنكية في الخارج وإمكانية الوصول إلى النقد في الداخل، وأن تربطهم صلة قرابة أو معرفة مع الشخص الذي يتم إرسال الأموال إليه. امتهنت العديد من الشركات نقل الأموال والتحويلات النقدية إلى السودان. احتفظ تجار الذهب والعملات الأجنبية في السودان بأموالهم خارج البنوك، حيث بالرغم من صورة المجتمع الرقمي الحديث غير النقدي، فإن الكثير من الأموال النقدية بقيت خارج النظام المالي الرسمي للبلاد. يساهم قطع خدمات الاتصال بالإنترنت لفترات طويلة ومتكررة في زيادة خطر المجاعة، حيث يجعل من عملية التحويلات المالية ووصول الأموال من الخارج إلى الداخل مستحيلة، إضافة إلى الصعوبات الكبيرة في توظيف تلك الأموال داخلياً لسد الحاجات اليومية. ويقول الدكتور عوض نقد "دخل السودانيين في وضع سيئ منذ بداية الحرب نظراً لانعدام الرواتب، ويعتمد السودانيون على تحويلات المغتربين ومساعداتهم، لذلك فإن الوضع سيزداد سوءاً مع انقطاع الإنترنت".من المسؤول؟ الأسبوع الماضي، ناشدت الأمم المتحدة جمع 4.1 مليارات دولار لتلبية "الحاجات الإنسانية الأكثر إلحاحا" وسط "معاناة غير مسبوقة" في السودان، مضيفة أن نصف سكان السودان بحاجة إلى الدعم والحماية، مع وجود الملايين من الجوع والتشريد بسبب الحرب. ويشبّه الناطق الرسميّ لـ"قوى الحرية والتغيير" السودانية شهاب إبراهيم الحرب الدائرة في السودان اليوم "بحروب العصور الوسطى فهي حرب تدور من دون أدنى سقوف أخلاقية أو إنسانية لذا نرى كل طرف يستخدم تقديم المعونات الإنسانية والخدمات الأساسية للمواطنين كورقة تكتيكية وتفاوضية وكل هذا تعبير واضح عن عدم المسؤولية". ويشرح إبراهيم أن "الحرب اتّجهت نحو الصراع على الموارد المالية للدولة لأن قطاع الاتصالات في السودان يغذّي موارد الدولة بمبالغ كبيرة في ظل حاجة طرفي الحرب للأموال لتغطية نفقات الحرب". وحول المسؤول عن انقطاع الإنترنت بشكل مباشر يقول المتحدث الرسمي باسم تجمع المهنيين السودانيين علاء الدين عوض نقد "سيزداد وضع الاقتصاد سوءاً أكثر مما هو عليه، وأعتقد أن خطوة قطع الإنترنت هي حرب اقتصادية بين طرفي النزاع، وكل طرف يصدر بيانات تدين الطرف الآخر بقطع الاتّصالات". وبرأي إبراهيم "الاتصالات ستبقى إحدى الأوراق التي يحاول كل طرف استخدامها للضغط على الطرف الآخر"، لذا فهو يتوقّع أن المشكلة ستتواصل في حال عدم الوصول إلى حل للصراع. وبالمثل يرى عوض نقد أن "كل علامات الدكتاتورية والحكم العسكري الشمولي وفساد الحياة الاجتماعية والثقافية وانعدام الخدمات ستتكرر ما لم يكن هناك انتقال ديمقراطي" في السودان. (المشهد)